{انتَبَذَتْ}: اعتزلت .
{مَكَاناً شَرْقِياً}: إلى جهة الشرق .
مريم( ع ) في أجواء المعجزة الإلهية
وهذه قصة أخرى في أجواء المعجزة الإلهية ،وهي تختلف عن قصة زكريا في أنها تتحدى المألوف في عملية الخلق ،ذلك أن الخليقة بدأت بحفنة من طين نفخ الله فيها من روحه فكان آدم ،وكانت حواء ،دون أب أو أم ،ثم كان التوالد على أساس التقاء الرجل والمرأة ليكون الإنسان نتيجة هذا اللقاء الزوجي .واستمرت البشرية في هذا الخط حتى أصبح القاعدة التي تحكم التصور كما تحكم الواقع .
وجاءت قصة ولادة مريم( ع ) لعيسى( ع ) لتخرق هذا القانون الطبيعي بقوة ،ولتعرف البشرية مخلوقاً ولد من أم دون أب ،ولتفرض ولادته تصوراً جديداً في أجواء العقيدة ،من خلال التعمُّق في فهم سر قدرة الله في عملية الإيجاد المتنوع في كل مظاهره الدالة على وحدانية الله وقدرته ،حيث لا تمنع إلفة الوضع الطبيعي للتناسل من التفكير الدقيق في إعجاز الأساس الذي أودع في لقاء النطفة بالبويضة سر الحياة التي ينشأ عنها الإنسان .وبذلك لا يكون في إعجاز الخلق فرق ،بين خلق آدم وخلق عيسى ،وخلق الناس بالطريقة العادية ،بل كل ما هناك أننا ألِفْنَا المعجزة في بعض صورها ،ولم نألفها في البعض الآخر .
وقد جعل الله السيدة العذراء مريم( ع ) عنوان القصة ،لأن حركة الخلق انطلقت منها ومعها ،وحملت أكثر الملامح اتصالاً بها ،من حيث المضمون والموقف ،ومن حيث الإيحاءات الروحية في مسألة تقديم النموذج الأمثل للمرأة من خلال الإنسانة المؤمنة التي يتحول ضعفها الأنثوي بفضل الإيمان والرعاية الإلهية إلى عنصر قوة وثبات .
{وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ} الفتاة العذراء الطاهرة التي عاشت أجواء خدمة الله في بيته ،فتعمق إحساسها الإيماني وطهارة فكرها وروحها وشعورها ،لما يتفايض من أجواء المعبد على كيان الإنسان المؤمن المتعبِّد من طهارة ،وها هي تبرز في موقف جديد لم تختره بإرادتها ،ولكنها تحركت نحوه بطريقة تلقائية لاشعورية ،{إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} تماماً كما تخرج أي فتاة لتخلو بنفسها لغرض التأمل أو العبادة أو ممارسة أي نشاط خاص بشكل طبيعي لم يثر انتباه أحد ،كما توحي أجواء الآية .