جملة{ واذكر في الكتاب مريم} عطف على جملة{ ذِكْرُ رحمتِ ربِّكَ}[ مريم: 2] عطف القصة على القصة فلا يراعى حُسن اتّحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية ،على أن ذلك الاتحاد ليس بملتزم .على أنك علمت أن الأحسن أن يكون قوله{ ذكر رحمة ربك عبده زكريا} مصدراً وقع بدلاً من فعله .
والمراد بالذكر: التّلاوة ،أي اتل خبر مريم الذي نقصّه عليك .
وفي افتتاح القصة بهذا زيادة اهتمام بها وتشويق للسامع أن يتعرفها ويتدبرها .
والكتاب: القرآن ،لأنّ هذه القصة من جملة القرآن .وقد اختصت هذه السورة بزيادة كلمة{ في الكتاب} بعد كلمة{ واذكر} .وفائدة ذلك التنبيه إلى أن ذكر من أمر بذكرهم كائن بآيات القرآن وليس مجرد ذكر فضله في كلام آخر من قول النبي صلى الله عليه وسلم كقوله:"لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي".
ولم يأت مثل هذه الجملة في سورة أخرى لأنه قد حصل علم المراد في هذه السورة فعلم أنه المراد في بقية الآيات التي جاء فيها لفظ{ اذكر} .ولعل سورة مريم هي أول سورة أتى فيها لفظ{ واذكرْ} في قصص الأنبياء فإنها السورة الرابعة والأربعون في عدد نزول السور .
و{ إذ} ظرف متعلق{ باذكر} باعتبار تضمنه معنى القصة والخبر ،وليس متعلقاً به في ظاهر معناه لعدم صحة المعنى .
ويجوز أن يكون ( إذ ) مجرد اسم زمان غير ظرف ويجعل بدلاً من ( مريم ) ،أي اذكر زمن انتباذها مكاناً شرقياً .وقد تقدم مثله في قوله{ ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه}[ مريم: 2 ،3] .
والانتباذ: الانفراد والاعتزال ،لأن النبذ: الإبعاد والطرح ،فالانتباذ في الأصل افتعال مطاوع نبذه ،ثم أطلق على الفعل الحاصل بدون سبق فاعل له .
وانتصب{ مكاناً} على أنه مفعول{ انتبذت} لتضمنه معنى حلت .ويجوز نصبه على الظرفية لما فيه من الإبهام .والمعنى: ابتعدت عن أهلها في مكان شرقي .
ونُكر المكان إبهاماً له لعدم تعلُّق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالاً في المقصود من القصة .وأما التصدّي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرقَ قبلة لصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس .كما قال ابن عباس: « إني لأعلم خلقِ الله لأي شيء اتّخذت النصارى الشرقَ قبلة لقوله تعالى:{ مكاناً شرقِيّاً}» ،أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى .فذكر كون المكان شرقياً نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل .