وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً 15} قال ابن جرير: وسلام عليه أي أمان له .وقال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ،فهي أشرف من الأمان ،لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته ،وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة ،وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحولانتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية ،ومرجع القولين إلى شيء واحد ،لأن معنى سلام ،التحية ،الأمان ،والسلامة مما يكره .وقول من قال: هو الأمان .يعني أن ذلك الأمان من الله .والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره .والظاهر المتبادر أن قوله{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة .وقوله:{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} مبتدأ ،وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء ،وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته ،ووقت موته ،ووقت بعثه ،في قوله{يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ} الآية ،لأنها أوحش من غيرها .قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم .ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم .قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها .رواه عنه ابن جرير وغيره .وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي ،أنت خير مني .فقال الآخر: استغفر لي ،أنت خير مني .فقال عيسى: أنت خير مني ،سلمت على نفسي وسلم الله عليك .وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى .ثم قال: انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليمفضل عيسى بأن قال إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه ،قال ابن عطية: ولكل وجه .انتهى كلام القرطبي .والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ} الآية أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله:{وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً 33} كما هو ظاهر .
تنبيه
الفتحة في قوله:{يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصباً على الظرفية .ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك ،والأجود أن تكون فتحة «يوم ولد » فتحة بناء ،وفتحة{وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ} فتحة نصب ،لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع ،والجملة الاسمية أجود عن بنائه ،كما عقده في الخلاصة بقوله:
وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا *** واختر بنا متلو فعل بنيا
وقبل فعل معرب أو مبتدا أعرب ومن بنى فلن يفندا
والأحوال في مثل هذا أربعة: الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصلياً وهو الماضي ،كقول نابغة ذبيان:
على حين عاتبت المشيب على الصبا *** فقلت ألما أصح والشيب وازع
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود ،وإعرابه جائز .
الثانيأن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عارضاً ،كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة .كقول الآخر:
لأجتذبن منهن قلبي تحلما *** على حين يستصبين كل حليم
وحكم هذا كما قبله .
الثالثأن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب .كقول أبي صخر الهذلي:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني *** نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
فإعراب مثل هذا أجود ،وبناؤه جائز .
الرابعأن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية .كقول الشاعر:
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني *** كريم على حين الكرام قليل
وقول الآخر:
تذكر ما تذكر من سليمى *** على حين التواصل غير دان
وحكم هذا كما قبله .واعلم أن هذه الأوجه إنما هي في الظرف المبهم الماضي .وأما إن كان الظرف المبهم مستقبل المعنى ،كقوله:{وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ} فإنه لا يضاف إلا إلى الجمل الفعلية دون الاسمية .فتكون فيه الأوجه الثلاثة المذكورة دون الرابع .وأجاز ابن مالك إضافته إلى الجملة الاسمية قبله ،كقوله تعالى:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} وقول سواد بن قارب:
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة *** بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب
لأن الظرف في الآية والبيت المذكورين مستقبل لا ماض ،وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً 15} قال أبو حيان: فيه تنبيه على كونه من الشهداء ،لقوله تعالى فيهم:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 169} .
قال مقيده عفا الله عنه: وجه هذا الاستنباط أن الحال قيد لعاملها ،وصف لصاحبها .وعليه فبعثه مقيد بكونه حياً ،وتلك حياة الشهداء ،وليس بظاهر كل الظهور .والله تعالى أعلم .
هذا هو حاصل ما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة من صفات يحيى ،وذكر بعض صفاته في غير هذا الموضع ،كقوله في «آل عمران »:{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي في الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ 39} ومعنى كونه{مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} أنه مصدق بعيسى ،وإنما قيل لعيسى كلمة لأن الله أوجده بكلمة هي قوله «كن » فكان ،كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} الآية .وقال:{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} الآية .وهذا هو قول جمهور المفسرين في معنى قوله تعالى:{مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وقيل: المراد بكلمة الكتاب ،أي مصدقاً بكتاب الله .والكلمة في القرآن تطلق على الكلام المفيد ،كقوله:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} ،وقوله:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} ،وقوله:{كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} إلى غير ذلك من الآيات ،وباقي الأقوال: تركناه لظهور ضعفه .والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا .وقوله «وسيداً » وزن السيد بالميزان الصرفي فيعل وأصل مادته ( س و د ) سكنت ياء الفعيل الزائدة قبل الواو التي هي في موضع العين ،فأبدلت الواو ياء عن القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة:
* إن يسكن السابق من واو ويا *
البيتين المتقدمين آنفاً .وأصله من السواد وهو الخلق الكثير .فالسيد من يطعيه ،ويتبعه سواد كثير من الناس .والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه: ساد يسود بالواو ،وتقول سودوه إذا جعلوه سيداً .والتضعيف يرد العين إلى أصلها ،ومنه قول عامر بن الطفيل العامري:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر *** وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة *** أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
وقال الآخر:
وإن بقوم سودوك لحاجة *** إلى سيد لو يظفرون بسيد
وشهرة مثل ذلك تكفي عن بيانه .والآية فيها دليل على إطلاق السيد على من ساد من الناس ،وقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما «إن ابني هذا سيد » الحديث .وأنه صلى الله عليه وسلم: لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم:«قوموا لسيدكم » والتحقيق في معنى قوله «حصوراً » أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلاً منه ،وانقطاعاً لعبادة الله .وكان ذلك جائزاً في شرعه .وأما سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم فهي التزويج وعدم التبتل .أما قول من قال: إن الحصور فعول بمعنى مفعول ،وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهنفليس بصحيح ،لأن العنة عيب ونقص في الرجال ،وليست من فعله حتى يثنى عليه بها .فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا ،واختاره غير واحد من العلماء .وقول من قال: إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر كما قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني *** لا بالحصور ولا فيها بسوار
قول ليس بالصواب في معنى الآية .بل معناها هو ما ذكرنا وإن كان إطلاق الحصور على ذلك صحيحاً لغة .وقوله «ونبياً » على قراءة نافع بالهمزة معناه واضح ،وهو فعيل بمعنى مفعول ،من النبأ وهو الخبر الذي له شأن ،لأن الوحي خبر لهشأن يخبره الله به .وعلى قراءة بالياء المشددة فقال بعض العلماء: معناه كمعنى قراءة نافع ،إلا أن الهمزة أبدلت ياء وأدغمت فيها للياء التي قبلها .وعلى هذا فهو كالقراءتين السبعيتين في قوله{إِنَّمَا النَّسِيء زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ} بالهمزة وتشديد الياء .وقال بعض العلماء: هو على قراءة الجمهور من النبوة بمعنى الارتفاع لرفعة النَّبي وشرفه .والصالحون: هم الذين صلحت عقائدهم ،وأعمالهم .وأقوالهم ،ونياتهم ،والصلاح ضد الفساد .وقد وصف الله تعالى يحيى بالصلاح مع من وصف بذلك من الأنبياء في سورة «الأنعام » في قوله:{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ 85} .