تسبيح اللّه بالوعي والمعرفة والعمل والإبداع:
وبعد أن كشف اللّه تعالى للملائكة أن ثمة حدوداً لعلمهم ،وبأنَّ ما لديهم من علم ،وبشهادتهم اللاحقة أيضاً ،هو مما علّمهم اللّه تعالى ،سأل آدم ( ع ) إعلامهم بما لم يحيطوا به علماً ،لتوكيد عجزهم ،وإظهار تفوق آدم عليهم في ما أثاروه من إشكال ،لجهة حصوله ،لما يلزم وجوده في الحياة الدنيا ،ويرفع به نواقصه .ثُمَّ عطف كلامه مذكراً إياهم بما سبق أن أعلمهم به لجهة إحاطة علمه تعالى بكلّ شيء ،فلا يفوته منه شيء ،ظاهراً كان أو باطناً ،غائباً كان أو حاضراً ،مضمراً كان أو معلناً ...الخ ،وبالتالي فهو يعلم ما يخفونه ويعلنونه .
] قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ[ في حدود هذا العلم الذي أُلهمتَه وعُلّمتَه ،والذي يجعلك جديراً بإدارة الأرض كلّها ،ليعرف الملائكة ،من خلال هذا العلم ،أنهم لا يملكون القدرة على أن يكونوا البديل عنك ،لأنَّ التسبيح والتقديس للّه ليسا كلّ شيء في عملية الخلافة ،بالإضافة إلى أنَّ مظاهر التسبيح قد تتمثّل بالحركة المنفتحة على تحريك خلق اللّه في خطّ إرادته بالدرجة التي تظهر فيها عجائب خلقه ،وإبداعات قدرته ،فقد تكون المعرفة الواعية ،وقد يكون العمل المنتج ،وجهاً من وجوه التسبيح في الإنسان ،وحركةً من حركات التقديس .ففي مظاهر العقل معنى التسبيح ،وفي مواقع القوّة والإبداع معنى التقديس .
] فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم[،وأخبرهم بها في كلّ ما أراد اللّه له أن يخبر به ويبينه لهم ،مما يوحي بالدرجة التي يملكها من المعرفة ،وبالقضايا التي يحيط بها من شؤون الحياة ،ليعرفوا الفارق بينهم في خصوصيات ملائكيتهم ،وبينه في إنسانيته ،] قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ[،فلا تقدرون على الإحاطة به ،كما أنَّ هناك الكثير من الغيب الذي لم تملكوا إلى معرفته سبيلاً ،فليس كلّ شيء مكشوفاً لكم ومقدّراً لكم في وسائله ،في الوقت الذي يستوي لديَّ الغيب كما يستوي لديّ السرّ والعلانية في ما تظهرونه وتكتمونه ،مما لا يمكن أن يحاط فيه .] وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[ من خصائص الألوهية في ذات الإله الذي يحيط بكلّ خلقه في ظواهرها وبواطنها ،مما لا يملكون الإحاطة به] أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[ [ الملك:14] .
وهنا ،حاول الكثيرون من المفسّرين التوقف عند كلمة] وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[ وحاولوا أن يفسروا كلمة] وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[ فتساءلوا عمّا كانوا يكتمونه ،وذكروا في ذلك وجوهاً ؛منها أنه ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والاغترار تنزيلاً للواحد منزلة الجمع باعتباره ملحقاً بهم ،ومنها أنه قولهم: لن يخلق ربنا خلقاً إلاَّ كنّا أعلم منه وأكرم… ولكنَّنا لا نجد لهذا أو ذاك حجّة على التفسير ،بل الغالب على الظنّواللّه العالمأنَّ الآية لا تختلف عن مثيلاتها من الآيات التي تختم بالحديث عن صفات اللّه من خلال مناسبة الموضوع في الآية من أجل تأكيد عظمة اللّه في أيّ موقف من مواقف القرآن ،وعلى ضوء هذا ،ربما يكون الحديث عن علم اللّه للغيب منسجماً مع الحديث عن الطبيعة الممتدة الفاعلة للخليفة في هذا المخلوق الجديد مما لم يحط الملائكة بعلمه ،ولا بُدَّ في هذا المجال من الإيحاء بسعة علم اللّه بالمستوى الذي يحيط بكلّ ما يظهره الإنسان أو يضمره ليوقظ في نفسه الإحساس الدائم بالرقابة المستمرة الشاملة عليه ،ما يحقّق له مزيداً من الانضباط والشعور العميق بعظمة اللّه .وفي هذه الحال ،لا نجد ضرورة تقدير أي شيء للكلمة ،لأنَّ القضية لا تنطلق من طبيعة الواقعة الشخصية ،بل من الطبيعة الأساسية لصفات اللّه .
ما هي الأسماء التي علّمها اللّه لآدم ؟
لقد استفاضت النصوص الدينية في الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت ( ع ) وعن غيرهم في أنَّ المراد منها هي أسماء الموجودات الكونية ،سواء منها الموجودات العاقلة أو غيرها ،ولعلّ هذا ما توحي به طبيعة الجوّ الذي يحكم الموقف في هذه الآيات ،وينسجم مع مهمة الخلافة عن اللّه في الأرض التي أعدّ لها الإنسان ،وهي تفرض المعرفة الكاملة بكلّ متطلباتها ومجالاتها .
جاء في تفسير العياشي: عن أبي العباس ،عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق ( ع ) قال: سألته عن قول اللّه:] وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا[ ماذا علّمه ؟قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية .
وجاء في تفسير الطبري عن ابن عباس ،قال: علم اللّه آدم الأسماء كلّها ،وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها النّاس: إنسان ،ودابة ،وأرض ،وسهل ،وبحر ،وجبل ،وحمار ،وأشباه ذلك من الأمم وغيرها .
وهناك اتجاه في تفسير ذلك بأسماء الملائكة وأسماء ذريته دون سائر أجناس الخلق ،وهو الذي اختاره الطبري في تفسيره ،«وذلك أنَّ اللّه جلّ ثناؤه قال:] ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَئِكَةِ[ يعني بذلك أعيان المسمين بالأسماء التي علمها آدم ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلاَّ عن أسماء بني آدم والملائكة ،وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوى من وصفنا فإنها تكنّي عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون » .ولكن هذا الاتجاه لا يتناسب مع طبيعة الخلافة ،لا سيما إذا فهمنا من الآية أنَّ آدم لم يكن هو الخليفة بشخصه بل بسبب تجسيده للنوع الإنساني كما استقربناه آنفاً ،فإنَّ معرفة أسماء الذرية والملائكة لا تقدّم شيئاً ولا تؤخر في الموضوع .
وأمّا التعبير عن الأسماء بالضمير المستعمل لما يعقل ،فقد اعترف صاحب التفسير المذكور بأنَّ العرب قد تستعمل ضمير العاقل ،في العاقل وغيره تغليباً ،وبذلك جاء القرآن الكريم:] وَاللّه خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ[ [ النور:45] .ولكنَّه قال إنَّ الغالب المستفيض في كلام العرب ما وصفنا ،ولكنَّنا لا نعتبر الغلبة في مثل هذالو ثبتتلغة مرجوحة أو غير فصيحة ،لأنَّ القرآن نزل بذلك في الآية المتقدّمة ،ما يوحي بأنها لغة مألوفة معتبرة ،ولعلّ ذهاب ابن عباسفي ما رُوي عنهيقرّب ما ذكرناه ،لأنه أعرف بكلام العرب من المتأخرين الذين عرفوه بالنقل ،بينما كانت معرفته له بالسماع والممارسة .
عبر ودروس للعاملين:
قد يشعر الإنسان مع هذه الآيات البينات بالحاجة إلى أن يعيش الإحساس بمنزلته ومستواه من خلال هذا الحوار الذي يجسد التكريم الإلهي له من خلال المسؤولية الملقاة على عاتقه .ولا بُدَّفي هذا الإحساسمن التركيز على أنَّ الخصائص الإنسانية الممنوحة له من اللّه ليست شرفاً يزهو به ،بل هي مسؤولية يحملها من أجل تفجيرها وتنميتها وتركيزها على الأسس التي يمكن له من خلالها أن يحقّق الأهداف التي من أجلها كان وجوده .
ولعلّنا نستوحي من ذلك اعتبار هذه الطاقات التي أودعها اللّه فيه أمانة لديه ،فليس له أن يعطلها ويجمدها ،أو يوجهها إلى التفاهات التي لا تحقّق للحياة شيئاً جديداً ،ولا تقدمها خطوة إلى الأمام ،بل يجب عليه أن يحرّكها ليحرّك الحياة من حوله ،وبذلك يخرج الإنسان عن الإطار الذي يحبس فيه نفسه عبر مشاعر الفردية والأنانية التي تجعله لا يفكر إلاَّ بنفسه ،لأنه لا يشعر بوجود الآخرين ،أو بمسؤوليته الإنسانية عن رعاية هذا الوجود وحمايته من الانحراف والانهيار ،بل كلّ ما عنده هو ذاته ،فهي معبوده في أفكاره وأعماله ،بعيداً عن كلّ شيء آخر .
إنَّ الشعور بخلافة الإنسان عن اللّه ،هو الذي يجدّد للإنسانفي كلّ يومحياته من خلال تجديد طاقاته وتحويلها إلى قوّة فاعلة متجدّدة تلاحق كلّ خطوات الواقع من أجل تركيزها على الطريق المستقيم .
وهذا ما يجب على العاملين في سبيل اللّه أن يعمّقوه في داخل نفوس النّاس كجزء من أساليب التربية الروحية التي يُراد منها إيجاد الشخصية المسلمة الفاعلة المتعاطفة مع كلّ مجالات العمل في الحياة ،المتطلعة في كلّ صباح جديد إلى واقع جديد ومسؤولية جديدة تنطلق أبداً في الآفاق الواسعة الشاملة التي تشرق بنور اللّه .
ولعلّ هذا ما يحقّق للإنسان الشعور العميق بوجوده الحر في داخل أعماقه بعيداً عن كلّ نوازع الضعف ،وتهاويل الضغوط المنطلقة من القوى الموجودة خارج ذاته ،لأنه يخلق في هذه الذات القوّة الهائلة المستمدة من شعوره بسيطرته على الكون كلّه من خلال دوره الكبير الممنوح له من اللّه خالق كلّ قوّة في الكون ،لأنه خالق الكون .فليست هناك قوّة تتحدّى دوره ،أو تدمر له إنسانيته في ضغوطها الطاغية ،بل هو القوّة التي تتحكم في الضغوط الخارجية كلّها ،من خلال قوته الداخلية .