{لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} في ما يحصلون عليه من خلال الحج من منافع دنيوية يحققها لهم اجتماعهم على مستوى التعارف والتبادل والتعاون والتشاور في المشاكل التي يعيشونها فكراً وواقعاً ،عبر ما يثيرونه من قضايا وما يحددونه من أهداف وما ينتظرونه من حلول .
وبذلك تسقط الحواجز المادية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس ،ليلتقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله ،والسير على منهجه ،والالتزام بدينه ،والجهاد في سبيله ،طلباً لرضاه ،ما يوفر لهم الخروج من الدوائر الضيقة التي يحبسون حياتهم فيها ،لينطلقوا إلى الدائرة الواسعة التي تحتويهم جميعاً ،مما ينقذهم من مشاكل التجزئة في حل القضايا العامة التي قد يستغرقون معها في خصوصياتهم ،فيسيئون بذلك إلى تلك القضايا من حيث يريدون أو لا يريدون ،لابتعادهم عن الأسس التي ترتكز عليها القضايا الإسلامية لجهة علاقتها ببعضها البعض ،وارتباطها بالهدف الكبير الذي يتحرك فيه الإسلام في الحياة ..
وهكذا تتواصل المنافع الدنيوية في رحاب الحج ،لتصل إلى مستوى توحيد الموقف السياسي ،والتصور الفكري ،وتحقيق التكامل الاقتصادي ،والمواجهة الموحدة للقوى الطاغية وغيرها .وهذا ما يمكن الوصول إليه في هذا المؤتمر العالمي السنوي الذي يتشكل بطريقةٍ عفويةٍ ،امتثالاً لأمر الله في العبادة ،ليمتد إلى امتثال أمره في حركة الإنسان في الواقع ..
أما المنافع الروحية التي تتداخلفي أكثر من موقعمع المنافع المادية ،فتأتي من التشريعات الإسلامية المتصلة بواجبات الحج المتنوعة التي تحقق لكل جانب من جوانب شخصية الإنسان ،حركة روحية تغذي فيه علاقته بالله وإخلاصه له ،وشوقه للوصول إلى درجات القرب عنده في دار النعيم ..
وهكذا يريد الله للناس في الحج أن يأتوا إلى رحاب البيت ،ليشهدوامن مواقع الوعي والمعاناةالمنافع التي يجدونها أمامهم عند الوصول ،أو التي يحققونها بعده ،{وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} هي أيّام التشريق التي تبدأ من يوم الأضحى حتى الثالث عشر من ذي الحجة ،على ما ذكر في أحاديث أئمة أهل البيت( ع ) ،أو هي أيام الحج ..{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} من الإبل والبقر والغنم ،إذا ذبحوها أو نحروها في نسكهم ،حيث جعل الله ذلك تعبّداً منهم له تعالى ،لتكون قرباناً له ،إذ أحلّ لهم هذه الأضحية وجعل لها معنى يتصل بالجانب الإيماني من حياتهم ،ما يوحي بهذا التزاوج في التشريع بين ما هو روحي وما هو مادي في حياة الناس ،إذ يجب أن لا يستغرقوا في حياتهم في جانب واحد ،فالله هو الذي خلق الروح التي تلتقي به لتعبده ،وهو الذي خلق المادة لتكون شاهداً على سرّ الإبداع في عظمته ،وهو الذي خلق الأنعام وأراد للإنسان أن يتقرب بها إليه ،تنميةً للحياة التي شاء لها أن تكون خاضعةً لقانون التضحية بحياة مخلوقة لله من أجل حياةٍ أخرى يريد لها أن تؤكد إرادته في دور الخلافة على الأرض ..
لماذا ذكر اسم الله على الذبيحة ؟
إنّ دراسة هذا التشريع الإسلامي الذي يقضي بذكر اسم الله على الذبيحة ،كما يقضي بذكره في أمور أخرى في حياة الإنسان ،إلزاماً واستحباباً ،يجعلنا نلاحظ أن هذا التشريع يمثل أسلوباً تربوياً يوحي للإنسان بأن كل حركة في حياته لا بد أن تأخذ شرعيتها من إذن الله بها ورعايته ،مهما كانت صغيرةً أو كبيرة ،لتكون مسيرته كلها من خلال الله ،بحيث تنطلق البداية منه ،وتصل النهاية إليه ،في رحلة العمر التي تستمد كل قوتها الحركية من قوّته ورحمته ،خلافاً للذين يعبدون الأوثان ،ويتقربون إليها بقرابينهم ،ويذكرون اسمها عليها ،فيشركون بالله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ،نتيجة التخلف الفكري والروحي الذي لا يرتكز على قاعدةٍ معقولةٍ من علم وفكرٍ ..
الانتفاع بذبائح الحجّ
{فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ} وهي رخصة شرعية بأكلها تدفع احتمال التحريم الذي قد يتوهمه البعض ،على أساس أن القربان لا بد من أن تأكله النار ،ولا يجوز للإنسان أن يأكل منه ،لأنه لله ،وما يكون لله لا يجوز أن يأكله الإنسان .ولكن الله أراد أن يبيّن أن القربان يمثل معنى داخل الإنسان عند تقديم الأضحية باسمه ..وتنتهي المسألة عند هذا الحد ،وبعد ذلك تأتي قضية الانتفاع بالأضحية حتى لا تذهب طعمةً للنار ،أو للتراب ،فللإنسان أن يأكل منها ،هديةً من الله له ،وأن يعطي الفقراء القسم الآخر{وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ} لتكون جزءاً من التشريع المتكامل الذي يفتح للفقير الأبواب التي تسد فاقته ،وتقضي حاجته ،وتسكت جوعه ..
ومن خلال ما تقدمه الآية ،نستوحي ما ينبغي للمسلمين فعله بالذبائح التي يمتثلون بذبحها واجب تقديم الأضحية يوم النحر ،فلا يلقونها في التراب دون فائدة ،مما يعطي للآخرين انطباعاً سلبياً عن التشريع الإسلامي الذي قد يتحول ،من خلال ممارسة كهذه ،إلى عملٍ عبثي ،تدفن معه ثروة حيوانية كبيرة تحت التراب ،في وقت يعاني فيه الكثير من الشعوب الإسلامية المجاعة ،علماً أن القرآن أكد على استثمار تلك الأضاحي والانتفاع منها بشكل فردي أو جماعي كجزءٍ من المساهمة في حل مشكلة الفقر ،وهو ما يؤدي تركه إلى إلغاء الهدف من التشريع نفسه ،وإلى تجميد الحكم الشرعي في صورة ذاتية ،بدلاً من أن يتحرك ليحقق لنفسه وللإنسان ،مصداقية الحل الإسلامي للحياة .
وربما تحتاج المسألة إلى دراسةٍ فقهية ،لتجاوز الإشكالات الشرعية التي يثيرها البعض حول المسألة ،ليُصار إلى حلها من ناحيةٍ شرعيةٍ ،كما تحتاج إلى دراسةٍ عملية واقعية ،لمواجهة المشاكل العملية في تنظيم الذبح وتوزيعه ..