وهذا نموذج من الناس الذين يخضعون انتماءهم إلى الرسالة لمصالحهم ،فإذا التقت الرسالة بمصالحهم تلك أيّدوها ،وإذا ابتعدت عنها رفضوها وتمردوا عليها ..وهكذا تكون مسألة الانتماء لديهم خاضعة للمصلحة الذاتية ،لا للقناعة الفكرية الرسالية ،ما يجعلهم يتلوّنون تبعاً للألوان التي تطرأ على الموضوع ،دون أصالة في القناعة والانتماء ..ويضع الله موقف هؤلاء في مواقع النفاق الذاتي التي تكون فيها المصلحة الشخصية هي المرتكز ،بحيث يهتز معها التحرك ليتحوّل إلى حالةٍ من الاهتزاز في العلاقات والكلمات والأفعال ،فيكون الإنسان ذا موقفين: داخلي وخارجي ،وذا وجهين: مشرقٍ ومظلم ،وذا كلامين: كافرٍ ومؤمن ،فيخسر الطمأنينة في الدنيا ،والمصير في الآخرة .
{وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} في إعلان للانتماء وللموقف المرتبط بخط الرسالة في حركة الإيمان ،{وَأَطَعْنَا} في انفعال عملي بالمضمون الشرعي لأوامر الله ونواهيه ،ولتعاليم الرسول وشرائعه ،ولكن حركة الواقع الاختبارية التي تواجه الناس بالمشاكل والتحديات في مواقع الالتزام ،تجعل البعض يثبت أمام التجربة الصعبة ويستمر في خط الإيمان ،ويسقط البعض في الامتحان ،فلا يطيقون الآلام التي تفرضها أحياناً المواقف الصلبة ،ولا يتحملون الخسائر المعنوية والمادية التي قد تحصل في ساحة الصراع بين الحق والباطل .
{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ} الإِعلان الحماسي الاستعراضي الذي أطلقوه في الحالة التي لا تتضمّن التحديات في ما توحي به البدايات من الأحلام الخالية من حركة المشاكل .
{وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} لأن الإيمان يمثل العقيدة القويّة الثابتة في فكر الإنسان وقلبه ،المتجذرة في عمق حياته ،المتحركة في خط أهدافه ،فإذا اهتزت به الأرض بسبب عوامل الاهتزاز ،عمل على منحها الثبات من خلال النظرة المستقبلية الواعية الواثقة بالله ،والحركة المنفتحة على الواقع في عملية تخطيط مدروس يحسب حساب كل المتغيّرات الطارئة بدقة ،ويوحي للإنسان بالاستعداد لذلك كله .
ومن خلال ذلك ،نستطيع أن نفهم أن الإيمان ليس كلمةً ،وليس موقفاً ظاهرياً ،بل هو عمق فكري وروحي وعملي يتجسد في موقف وحركة والتزام .لهذا نفت الآية صفة الإيمان عن هؤلاء ،لتثبتهافيما بعدللملتزمين بالخط ،الثابتين عليه .وتمضي الآيات في إبراز بعض ملامح هذا الاهتزاز العملي الذي يوحي بفقدان القاعدة الفكرية للانتماء .