كان المشركون يثيرون الشبهات حول القرآن ليشككوا في نزوله من عند الله وليبطلوا مفعول تأثيره في النفوس من خلال الإِيحاء الداخلي بقداسته الروحية ،وليحاولوابالتاليإبطال الإيمان برسالة الرسول ،ليتحولفي نظر الناسإلى رجلٍ عاديٍّ يختلق الكلام وينسبه إلى الله .
وقد كان من بين هذه الشبهات ،الحديث عن نزول القرآن عليه على دفعات ،في الوقت الذي كانوا يسمعون عن التوراة والإنجيل ،بأنهما قد نزلا على موسى وعيسى( ع ) دفعةً واحدة ،وكما يوحي به لفظ الكتاب الذي يدل على مجموعة من الفصول المترابطة ببعضها البعض تمثل وحدة الفكرة العامة الموزّعة على مواقع متعدّدة ،كما هو الدين في معناه الشامل الذي يتضمن العقيدة والشريعة معاً .
وفي ضوء ذلك ،فإن هذا النزول التدريجي الذي لا ترتبط فيه أجزاء الآيات ببعضها البعض ،باعتبار أنه موزّع على الحوادث والقضايا التي يعيشها الرسول مع الناس ،وعلى المشاكل التي يثيرونها حوله ،قد يدلّ على أن المسألة تعبِّر عن معاناةٍ شخصيةٍ تتأثر بالأحداث ،فتصنع في كل حدث فكرة تنسجم معه ،وتجيب عن كل مسألةٍ بجواب يخرجها من المأزق ،وتعالج كل قضيّة بما يتناسب معها من الحلول ..وهكذا يفتقد النبي معنى الرسالة الكاملة الشاملة التي يقدمها الله إلى البشر كحلٍّ متكامل لكلّ مشاكلهم في الحياة ،لينطلقوا فيه من موقع القاعدة الثابتة التي يلجأون إليها في كل منطلقٍ للحياة ،بل يكون مثل بقية الناس الذين تتكامل لديهم الأفكار تبعاً للمراحل التي تتكامل بها حياتهم .
وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية من هذه الآية:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي دفعة واحدة ،فلماذا يُنزَّل عليه على عدة دفعات تتنوّع فيها الأفكار على أساس تنوّع الأوضاع ،واختلاف الحوادث والأشخاص ؟
ولكن الله يثير أمامهم المسألة من موقع الصفة الحركية للرسالة ،والخط التربويّ للمسيرة الإنسانية في حركية الإسلام في تنمية الفكر والروح ،ومراقبة الحركة في الوسيلة والهدف وفي مواجهة التحديات .
فلم يكن الإسلام مجرّد فكرٍ يراد للناس أن يختزنوه في وعيهم في مواقع نظريةٍ للمعرفة المجرّدة ،بل كان فكراً يراد له أن يتجذّر في النفس والواقع والحياة ،لأن المقصود هو تنمية الروح الإسلامية في الإنسان ،في عملية صنع الأمة على هدى الإسلام وتعاليمه .ولهذا كانت الخطة أن تطرح الفكرة في ساحة التطبيق ،ليعيش المسلمون المشكلة ،فتتفاعل في عقولهم ومشاعرهم ،وتحتوي أوضاعهم وعلاقاتهم ،لتأتي الآية بالحل المناسب الذي يستوعب الحالة كلها ،فيرى الناس الحل في حجم المشكلة ،وفي صعيدها ،وينظرون إلى الفكرة وهي تتحرك في الأرض بطريقةٍ واقعية ،فيعيشون واقعيتها ،فتثبت في شخصيتهم في عمق التأثير ،وبذلك تمنحهم المعرفة والتطبيق ،والثبات الفكري والروحي والعملي على الخط المستقيم .وهناك فرقٌ بين أن يأخذ الفكرة من مواقع التجريد ،وبين أن يأخذها من مواقع الواقع .فإن الانطلاق من الواقع يثبّت الشخصية من خلال الفكرة ،تماماً كما هو الماء الذي ينفذ إلى الأرض ليمنحها الحيوية والنموّ في البذور الساكنة في التراب .
هذا هو الأساس في تنزّل القرآن على دفعات من أجل أن يواكب القرآن المسيرة كلها ليرعاها ويشرف عليها ويجنّبها المشاكل الصعبة ،وينظّم لها خطوطها التفصيلية على مستوى حركة القيادة والتزام القاعدة ونهج المسيرة ،لأن ذلك يمنع الاهتزاز الروحي والفكري والعملي ،ويحفظ القاعدة من السقوط والانهيار ،لأنها تتحرك بعين الله ورعايته وإشرافه ،في كل حركةٍ ،وفي وكل مشكلةٍ .وهذا الذي أشارت إليه الفقرة التالية .
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} والفؤاد يعني الشخصية العقلية والروحية التي قد تتعرض للاهتزاز بفعل المشاكل والتحديات التي تثير الإحساس السلبي وتهزّ القلب بالآلام ،فكأن القرآن يحتوي ذلك كله ،في ما يمنحه من وضوح الرؤية للأشياء بالمستوى الذي يفهم فيه طبيعة الموقع الذي يقف فيه ،ونوعية الخط الذي يسير عليه ،والهدف الذي يسعى إليه ،فلا يبقى هناك مجالٌ للاهتزاز الروحي والنفسي والعملي .
وإذا كان الله يتحدث عن تثبيت النبي ،فإنه يتحدث عنه بصفته القيادية من موقع انفتاحه على الأمة ،وقضاياها التي تتطلب معرفة الحلول الطبيعية لها من خلال وحي الله .
وقد نستوحي من ذلك ،أن الله يثبِّت رسله بوحيه ليتكاملوا بطريقةٍ تدريجيةٍ في الانطلاق باتجاه مدارج الكمال ،إذ يريد لهم وعي الفكر ،وحركية الخط ،وحلّ المشكلة ،وثبات الموقف ،ما يوحي بأن مسألة الكمال النبوي ليس مسألةً دفعيّةً حاسمةً ،وليس في هذا أي منافاةٍ مع عصمتهمعليهم السلاملأن هناك فرقاً بين ما هو الخطأ ،في ما يمارسه الإنسان ،وبين ما هو التكامل في ما يريد أن يسمو فيه وينطلق أو يبلغه من مواقع السموّ والكمال .
وهكذا أراد الله للقرآن أن ينزل على دفعات ليثقّف الأمة بأفكاره وتعاليمه بطريقة تدريجية لتثبيت القيادة ،ولتركيز القاعدة على أساس الخط المستقيم ،وتوجيه المسيرة على أساس حركة النظرية في موقع التطبيق .
{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} فأنزلنا الآية عقيب الآية ،والسورة بعد السورة ،كما يوحي به معنى الترتيل .
وإذا أردنا أن نطلق الآية في حركية الدعوة والعمل في سبيل الله ،فنستطيع استبدال تدريجيّة النزول للايات بتدريجية تحريك الآيات في مواقع العمل والجهاد وفي منطلقات الدعوة بطريقةٍ دقيقةٍ ،نوزع فيها الآيات على المسيرة ،فتكون هذه الآية في نقطةٍ هنا ،ونقطةٍ هناك ،وتكون السورة في مرحلة أولى ،لتكون السورة الأخرى في المرحلة الأخرى ،ليكون القرآن ثقافة الأمة في كل مواقع السير ،حتى يعرفوا الفكرة في مواقع الحركة ،فلا تبتعد المسيرة عن آفاق الإسلام في فكره وشريعته .