لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} البخوع هو إهلاك النفس عن وجد ،وهذه هي اللفتة الإِلهية الموحية التي تلمس قلب النبي بالحنان والعطف في ما كان يستشعره من الألم العميق الذي يأكل روحه ،لأنه ينظر إلى مستقبل هؤلاء الناس ،فيرى فيه أكثر من مشكلةٍ تتحدى سلامهم الروحي وأمنهم المادي ،في ما هو القلق الذي يفترس اطمئنانهم ،والحيرة التي تأكل حياتهم ،والضياع الذي يهدّد نجاتهم ،فيتألم لهم لأنهم ابتعدوا عن خط الإيمان الذي هو مصدر سعادتهم في الدنيا والآخرة ،ويتعمق الألم في داخله ،من موقع الرحمة في قلبه ،وحركة المسؤولية في روحه وفكره ،حتى ليخيّل للناظر إليه والمطلع عليه ،أنه يكاد أن يهلك حزناً وأسفاً .ولهذا خاطبه الله بأسلوب الترجي الذي يوحي بقرب حدوث ذلك ،أو بإمكانه .
وقد توحي هذه الكلمات للنبيّ بأن عليه أن لا يأخذ المسألة مأخذ الأهمية القصوى بالمستوى الذي يضغط على حياته ،بل ينبغي له أن يتقبلها بشكل طبيعيٍّ ،لأنه قد بذل كل جهده في هدايتهم ،ولأن الرفض الذي يواجه به ،ليس رفضاً له بصفته الذاتية ،بل بصفته الرسالية ،ما يجعل القضية موجهةً إلى الله سبحانه ؛ولأنهم قد اختاروا الكفر بعد إقامة الحجة عليهم ،في وضوح الرسالة ،فلم يكفروا من موقع غموضٍ أو شبهةٍ ،فلا حجة لهم في ذلك .وإذا كان النبي ينطلق في شعوره العميق بالألم من موقع النصرة لله ،فإن الله قادر على أن يهلكهم جميعاً ،على أساس قدرته المطلقة ،ولكن حكمته في تنظيم حركة الناس في الإيمان والكفر ،جعلته يؤخرهم إلى أجل مسمَّى ،فلا ضعف في الموقف ،بل هي القوة التي لا تخاف الفوت .