{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْملاَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وذلك في ما خيّل إليه من سيطرة موسى على عقولهم ومشاعرهم من خلال ما قدّمه من الآيات والمنطق الرسالي ،لأنه شعر بتأثير ذلك في نفسه ،مع أنه صاحب السلطة وصاحب المصلحة في الرفض ،فخاف أن يؤثر ذلك على قومه .ولهذا أراد أن يقوم بأسلوب إيحائيٍّ وبطريقةٍ استعراضية ،فهو الحاكم الذي عوّدهم أن يفكر لهم ،وأن يكتشف الحقائق التي يريدهم أن يؤمنوا بها ،لأنه عطّل لهم تفكيرهم وأبعدهم عن السعي للحصول على المعرفة بشكل مستقل .
ولهذا ،فالعقيدة تصدر عنه بمرسوم كما هي الشريعة التي قرّرها بمرسوم ،كما هي سيرة الطغاة الذين لا يرون لشعوبهم قيمةً في ميزان الفكر ،ولا يرون لهم حقاً في تقرير مصيرهم بأنفسهم ،وهذا ما جعله يواجههم بأن دعواه الألوهية ،التي تجعله في موقع الإِله المعبود ،وتجعلهم في موقف العبودية له ،لم تنطلق من حالةٍ ذاتيةٍ طموحةٍ ،بل من موقع الحقيقة التي تفرض نفسها على الواقع ،لأنه بحث في كل ما حوله ،فلم يجد إلهاً غيره يملك سلطة الحكم ،ويسيطر على مواقع القوّة .أمّا ما قاله موسى ،فليس فيه أيّة حجةٍ تؤكده ،ولم يجد فيههوبرهاناً قوّياً مقنعاً ،ولذلك فإنه يؤكد لهم ضرورة البقاء على ما هم عليه من خط العقيدة والعبادة .
ثم يبدأ الاستعراض الذي يراد من خلاله الإِيحاء بأنه لا يقف في موقف العناد ،بل في موقف الشخص الذي لا يدّخر جهداً في الوصول إلى الحقيقة ،مما يملك من إمكانات التحرك نحوها ،ولذا فهو يطلب من الناس أن يجمّدوا موقفهم ،ولا يغيّروه ،حتى تتُمّ عملية استنفاد الجهد كله في السعي إلى معرفة هذا الإِله ،ليعرّفهم بعد ذلك كل ما وصل إليه ،{فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} الآجر الذي كانوا يستعملونه للبناء ،فيطبخون الطين بالنار ليتماسك ويتحول إلى حجر صلب{فَاجْعَل لِّي صَرْحاً} وهو البناء العالي الذي يملك من خلاله التطلع إلى الأعالي في رحاب الفضاء ،{لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} إذ كان يتصوره شخصاً ساكناً في طبقات الجو ،في مكان ما ،في طريقة إيماء إلى الناس ليتصوروا الأمر كما لو كان هناك شخص ينازع شخصاً ،أو يبحث عنه ،أو يلاحقه في أماكن وجوده ،لتسقط هيبته من النفوس كقوّةٍ خالقةٍ قادرةٍ مهيمنةٍ على الكون كله ،كأسلوب من أساليب إضلال الناس .ثم يثير أمامهم الفكرة الموحية بأن الأمر لا يعدو أن يكون وهماً كاذباً من موسى( ع ) ،لأنه لو كانكما يقوللتطلَّع الناس إليه في الفضاء ،لعدم وجود ما يحجبه عنهم في القصر الذي يسكنه ،{وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} لأنه لا يملك دليلاً حسياً على ما يدّعيه من وجود هذا الإِله الخفيّ .
وهذا الأسلوب الفرعوني ،يمثل لوناً من ألوان التذاكي الطغياني لدى الطغاة في إضلالهم للناس عندما يواجههم الخطر على سلطانهم ويخافون من تأثر الناس به ،فيعملون على التقرب إليهم بالأساليب المتحركة بين الإيحاء بالإخلاص لهم ،والنصح لأمورهم ،وبين الاستعراض المسرحي في التأثير على مشاعرهم .