{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ} فلم يعرف أحد منك في تاريخك السابق على الرسالة ،أنك كنت تقرأ الكتب الدينية أو غيرها{وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ولم يُعرف عنك الكتابة لما تفكر به ،أو تسمع به ،لأنك لم تتعلم ذلك من أيّ شخص ،بل كنتكغيرك من أبناء قومكأميّاً لا تمارس القراءة والكتابة ،وقد أراد الله أن يبعثك نبيّاً أمّياً ،يبدع الرسالة من وحي الله ،ويبلغها للناس ،ليعرفوا أنها وحيٌ من الله ،وليست فكراً بشرياً ،لأن النبيّ الذي جاء به لا يمكن أن يكون ناقلاً له من كتابٍ رساليٍّ سابقٍ ،لأنه لا يقرأ الكتب ،ولا كاتباً له من إملاء شخص آخر ،لأنه لا يكتب .ولو كان الأمر على العكس من ذلك{إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} الذين يخوضون في الباطل ،ليفرضوه على الحياة ،من موقع الرغبة في تأكيد الأكاذيب لمصلحتهم الذاتية ،وقالوا إنه قارىءٌ كاتبٌ ،فقد يكون استغلَّ جهلنا بالرسالات في ما نزلت به التوراة والإنجيل ،فنقل عنهما ما أراد ،وادّعى الرسالة على هذا الأساس .
ولكنهم لم يجدوا سبيلاً إلى هذا القول ،لأن النبي لم يكن شخصاً منعزلاً عن قومه ليجهلوا طاقاته الثقافية ،ولم يكن بعيداً عن مجتمعهم ،بل كان قريباً إلى حياتهم ،ولهذا كان مستودع أماناتهم ،ما يجعل العلاقة بهم علاقةً مستمرة .وإذا كانت له بعض الفترات التي يغيب فيها عنهم ليفكر ويتأمل في غار حراء ،فهي لم تكن بالحجم الذي ينفصل به عن مجتمعه .ولهذا فقد قرأ هذه الآية على قومه ،ولم يستنكرها عليه أحد ،إذ لو كانت غير حقيقية في مضمونها ،لوجد فيها الكافرون فرصةً لتكذيبه والرّد عليه ،باعتبار أنهم يعرفون تاريخه وملكاته من خلال معرفتهم بكل أوضاعه وخفاياه .
ولعل هذا الجانب التاريخي الذي رافق حركة هذه الآية المكيّة في مجتمع المدينة ،هو الردّ على الكثيرين الذين ينكرون صدق القرآن في هذه القضية ،ممن لا يؤمنون بالقرآن كرسالةٍ إلهية ،فإن غياب أيّ اعتراض من جانب مجتمع النبي الذي كان يبحث عن أيّ شيء ،مهما كان نوعه ،يدل على أن المضمون هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من أي مكان .