ثم قال تعالى:( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ) ، أي:قد لبثت في قومك - يا محمد - ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة ، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب . وهكذا صفته في الكتب المتقدمة ، كما قال تعالى:( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) الآية [ الأعراف:157] . وهكذا كان ، صلوات الله وسلامه عليه [ دائما أبدا] إلى يوم القيامة ، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده ، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم . ومن زعم من متأخري الفقهاء ، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام ، كتب يوم الحديبية:"هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله "فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري:"ثم أخذ فكتب ":وهذه محمولة على الرواية الأخرى:"ثم أمر فكتب ". ولهذا اشتد النكير بين فقهاء المغرب والمشرق على من قال بقول الباجي ، وتبرءوا منه ، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم:وإنما أراد الرجل - أعني الباجي ، فيما يظهر عنه - أنه كتب ذلك على وجه المعجزة ، لا أنه كان يحسن الكتابة ، كما قال ، عليه الصلاة والسلام إخبارا عن الدجال:"مكتوب بين عينيه كافر "وفي رواية:"ك ف ر ، يقرؤها كل مؤمن "، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت ، عليه السلام حتى تعلم الكتابة ، فضعيف لا أصل له ; قال الله تعالى:( وما كنت تتلو ) أي:تقرأ ( من قبله من كتاب ) لتأكيد النفي ، ( ولا تخطه بيمينك ) تأكيد أيضا ، وخرج مخرج الغالب ، كقوله تعالى:( ولا طائر يطير بجناحيه ) [ الأنعام:38] .
وقوله:( إذا لارتاب المبطلون ) أي:لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول:إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء ، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة:( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) [ الفرقان:5] ، قال الله تعالى:( قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) [ الفرقان:6] ، وقال هاهنا:( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) أي:[ هذا] القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق ، أمرا ونهيا وخبرا ، يحفظه العلماء ، يسره الله عليهم حفظا وتلاوة وتفسيرا ، كما قال تعالى:( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [ القمر:17] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا ".
وفي حديث عياض بن حمار ، في صحيح مسلم:"يقول الله تعالى:إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان ". أي:لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل ، كما جاء في الحديث الآخر:"لو كان القرآن في إهاب ، ما أحرقته النار "، لأنه محفوظ في الصدور ، ميسر على الألسنة ، مهيمن على القلوب ، معجز لفظا ومعنى ; ولهذا جاء في الكتب المتقدمة ، في صفة هذه الأمة:"أناجيلهم في صدورهم ".