{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} كأيِّن للتكثير ،أي أن كثيراً من الدواب التي تتحرك في الأرض لا تحمل رزقها ولا تدخره ،لأنها قد لا تملك من وسائله الكثير ،ولكنها لا تموت من خلال ذلك ،لأن مسألة الرزق لا تخضع دائما للقدرات الذاتية ،والأسباب العادية ،بل تخضع لتقدير الله وتخطيطه في توزيع الرزق على الناس من خلال ما يخلقه من أسباب طبيعيةٍ وغير طبيعية ،مما ينسجم مع الحكمة الإِلهية في تدبير الكون كله ،وهكذا تُفرض القضية الإيمانية القائمة على أساس السنّة الإِلهيّة ،{اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} في ما يهيّئه لكم من وسائل الادّخار ،ومن أسباب الحصول على الرزق ،أو في ما يرزقكم من ذلك من حيث لا يحتسب ،{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي يسمع دعاءكم في طلب الرزق عندما تدعونه ،ويعلم ما تحتاجون إليه مما تملكونه ،ولا يغيب عنه أيّ شيء في ذلك ،فلا تخافوا أن تموتوا من الفقر والحرمان والجوع إذا هاجرتم في سبيل الله ،وواجهتم القوى التي تبعدكم عن دين الله من الكافرين والطاغين ،فإنهم لن يمنعوا عنكم رزقاً قدّره الله لكم ،ولن يتمكنوا من أن يقرّبوا أجلاً أبعده الله عنكم ،كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب( ع ): «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله ،وإنهما لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق » .
عدم استسلام العاملين للتهاويل
وهكذا توحي الآية لنا أن على العاملين في سبيل الله أن لا يستسلموا لتهاويل الخوف التي تثيرها القوى المستكبرة ضد القوى المستضعفة ،انطلاقاً من كل التهديدات التي تطلقها بالحصار الاقتصادي الذي تضيق معه فرص الحياة وظروف العيش الهنيّ ،باعتبار أنها التي تملك الثروة الغذائية ،فهي التي تستطيع أن تمنع الناس من لقمة العيش ،وهي التي تملك أن تعطيها من خلال قدراتها المادية على أساس شروطها الثقافية والأمنية والسياسية والاقتصادية ،في ما يضغط على حريات الأمة ويصادر إرادتها ،ويقيّد مستقبلها بقيود ثقيلة .
إن الثقة بالله وبرحمته وقدرته على أن يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ،فيعطي من يشاء حتى لو منعه الناس ،ويمنع من يشاء حتى لو أعطاه الناس ،إن ذلك هو الذي يؤكد للمؤمن ثقته بنفسه وبالحياة من حوله ،من خلال الثقة بالله الواسع الكريم الذي يتعهد خلقه في أعماق الأرض ،وفي آفاق الفضاء ،في ما يصنعه لهم من ظروفٍ وأوضاعٍ ،وما يهيئه لهم من وسائل .
وبذلك يكون الإيمان الإيجابي المتحرك ،هو الأساس في حركة الحرية ،وفي ارتفاع مستوى التحدي من جهة ،وردّه من جهةٍ أخرى .