الإسلام هو دين الاعتدال والاستقامة
هل الدين في قاعدته الفكرية حالةٌ خارجيّةٌ طارئةٌ تدخل إلى الذهن الإنساني من الخارج ،بعيداً عما هو التكوين الطبيعيّ للإنسان ؟أم هو حالةٌ عميقةٌ في ذاته ،تنبعث من فطرته الذاتية ،وتتحرك في حركة العقل والوجدان ،لتتحول إلى فكرٍ وشعورٍ ومعاناةٍ والتزامٍ .
إنَّ هذه الآيات تحدّد الجواب عن ذلك في خطاب الوجدان النبويّ من موقعه الإنساني الفطري في دائرة العقيدة والعمل .
أقم وجهك للدين حنيفاً
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} ،والحنف ميل القدمين إلى الوسط ،فيكون المراد به الكناية عن الاعتدال .
لا بد للإنسان من خطٍّ يسير عليه من أجل الوصول إلى غايته المثلى في الحياة ،ليؤكد معنى إنسانيته في عمق ذاته ،فما هو هذا الخط ؟
إنه خطّ الاستقامة والاعتدال الذي لا ينحرف ولا يميل ولا يزيغ ،الذي يريد الله للإنسان أن يقبل عليه بوجهه ،لا الوجه الظاهر المعروف ،بل كيانه المشتمل على عقله وروحه في ما يتمثل به حقائق الأمور العامة .
إنه دين الله الذي يجمع الخير كله ،وينفتح على الحياة الحُرَّة الواسعة التي تلتقي عندها كل خطوط السعادة في الدنيا والآخرة .
إنه توحيدُ الله الذي يعيش فيه الإنسان التصوّرَ الشامل الذي يتحرك في آفاقه الصدق ،والعدل والإحسان ،والقوّةُ المفتوحة على الرحمة ،والسماح في خط التوازن بين المادة والروح ،وانسجام الشخصية الفردية والاجتماعية ،في ما يمثله هدى الله في ذلك كله .
قد تكون التفاصيل كثيرةً متنوعةً في مفردات نشاط الإنسان في مختلف مجالات حياته ،ولكن المهم أن يبقى الانفتاح على صفات الله الواحد وأسمائه الحسنى التي لا تقف عند حدّ في كمالها وجلالها وجمالها ،قائماً ،حتى لا يتيه الإنسان في زحمة هذه التفاصيل ،وحتى يبقى مرتبطاً بصراط كماله الحق . َ
إنه يختصر الدين كله ،فإذا أقبل الإنسان عليه بكيانه ،فقد أقبل على الدين كله ،لأنه الذي يجعل الحياة كلها مربوطةً بالله ،ومتحركة برحمته وسائرةً في هداه ،فلا يلتفت إلى أيّ جانب إلا من خلاله ،ولا يتحرك في أيّ اتجاهٍ إلا إليه ،لأنه خالق كل شيءٍ وغاية كل شيءٍ{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} وانطلق في حياتك ،وأقم كل ذاتك لله وحده في خط الاستقامة الذي لا يخلص إلاَّ له ولا يتوجه لأحد غيره .
الإسلام هو دين الفطرة
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} في ما يتحرك فيه العمق العميق للفطرة الإنسانية الكامنة في معنى الخلقة ،وفي حركة الوجود الذاتي الطبيعي للإنسان ،فهي التي جعلها الله أساس حقيقته وسرّ وجوده ومنطلق انفتاحه على الحقيقة كلها ،وهي التي تقوده إلى معرفة الله في وحدانيته التي تأبى الشريك ،لأنه لا معنى لشريك يكون مخلوقاً لله ومربوباً له ومحتاجاً إليه في كل شيء ،فلا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلا به .وبذلك كانت الوحدانية ،في صفاء العقل ونقاء الوجدان ،هي الحقيقة البسيطة الصافية التي تتصل بها الذات من دون عناء ،لأنها تستقبلها كما تستقبل العيون المفتحة على الشمس ،مع كلّ ما في الشمس من إشراق النور ،وهي التي أكدها القرآن في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [ الأحقاف:13] مما يوحي بأن التوحيد هو القاعدة التي يرتكز عليها الدين ،وتنطلق منه كل الخطوط العريضة في حركة الإنسان في الحياة الباحثة عن الله في الأعماق ،وفي مدارج السموّ ،وفي خط الامتداد .
{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لأن الفطرة هي أساس الشخصية التي تبقى في سرّ وجود الإنسان ،مهما تغيرت أوضاعه ،أو امتدت سنوات عمره ،أو اختلفت مواقعه ،فهي الشيء الوحيد الذي لا يتبدل فيه ،وهي التي تحقق في داخله معنى الوجدان ،وهي وحدها التي يكتشف من خلالها وجود الله ووحدانيته وعبوديته له ،وخضوع الحياة لإرادته ،فإذا أحاطت بها الظلمات والتهاويل ،فإنها تستطيع أن تشرق من جديد لتشق كل حجب الظلام عن العقل ،وكل تهاويل الضلال عن الوجدان ،ليعود الإيمان صافياً كالنور ،طاهراً كالينابيع ،منفتحاً كالأفق الرحب في موعد الشروق ،وبذلك كانت هي الضمانة الوحيدة للإيمان بالله ،أمام كل إشكالات الواقع ،وشبهات الإِلحاد .
قيمومة الدين
{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الذي جاءت به الأنبياء ،لتكون الحياة كلها لله في مواجهة كل الآلهة المزعومة التي أرادت أن تكون سلطتها هي الهيمنة على الناس ،في ما تثيره من الأوهام ،وتخطط له من الأضاليل ،وتتحرك به من الخطوات في اتجاه الفساد والإفساد ،فكان التوحيد هو الذي يواجه ذلك كله بالقوّة الفكرية والعملية ،وهو الدين القيّم الذي يملك القيام على شؤون الحياة والإنسان ،فيرعاهما بالشريعة السمحة التي تنطلق من وحي الله لتتجه إلى الله وحده ،كما يملك القيمومة على الواقع كله .
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الغشاوة قد أغشت أبصارهم وقلوبهم ،وجمّدت مشاعرهم ووجداناتهم ،فالتزموا الشرك في ما صنعوه من آلهة ،وفي ما اختلقوه من أصنام .وإذا فقد الإنسان صفاء البصر ،فقد صفاء الرؤية ووضوحها ،وإذا لم يحصل على انفتاح القلب على الحقيقة ،لم يحصل على العلم الذي يهديه سبل الهداية .