التّفسير
كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة الله ،عن طريق مشاهدة نظام الخلق ،والاستفادة منه لإثبات مبدأ العلم والقدرة في ما وراء عالم الطبيعة ،بالاستفادة من آيات التوحيد في هذه السورة !
وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر ،فإن الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحثتتحدث عن التوحيد الفطري ،أي الاستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني ،إذ يقول القرآن في هذا الصدد: ( فأقم وجهك للدين حنيفاً ) لأنّها ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
«الوجه » معناه معروف ،وهو مقدم الرأس .والمراد به هنا الوجه الباطني ،ووجه القلب والروح فعلى هذا ليس المراد هنا من الوجه أو المحيّا وحده ،بل التوجه بجميع الوجود ،لأنّ الوجه أهم أعضاء البدن !
وكلمة «أقم » مشتقة من الإقامة ،ومعناه الاستقامة والوقوف بثبات ( على قدم راسخة ) ...
وكلمة «حنيف » مشتقة من «حَنَف » ،ومعناها الميل من الباطل نحو الحق ،ومن الاعوجاج نحو الاستواء والاستقامة ،على العكس من «جنف » على وزن «حنف » أيضاً ،ومعناها الميل من الاستواء إلى الضلالة والإعواجاج .
فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والاستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال .
فيكون معنى هذه الجملة بمجموعها ،أن وجّه نفسك دائماً نحو مبدأ ومذهب خال من أي أنواع الاعوجاج والانحراف ،وذلك هو مبدأ الإسلام ودين الله الخالص والطاهر{[3216]} .
إنّ الآية المتقدمة تؤكّد على أن الدين الحنيف الخالص الخالي من كل أنواع الشرك ،هو الدين الذي ألهمه الله سبحانه في كل فطرة ،الفطرة الخالدة التيلا تتغير ،وإن كان كثير من الناس غير ملتفت لهذه الحقيقة .
والآية المتقدمة تبين عدة حقائق:
1إنّ معرفة اللهليست وحدهابل الدين والاعتقاد بشكل كلي وفي جميع أبعاده هو أمر فطري ،وينبغي أن يكون كذلك ،لأنّ الدراسات التوحيدية تؤكّد أن بين جهاز التكوين والتشريع انسجاماً لازماً ،فما ورد في الشرع لابدّ أن يكون له جذر في الفطرة ،وما هو في التكوين وفطرة الإنسان متناغم مع قوانين الشرع !
وبتعبير آخر: إنّ التكوين والتشريع عضدان قويان يعملان بانسجام في المجالات كافة ،فلا يمكن أن يدعو الشرع إلى شيء ليس له أساس ولا جذر في أعماق فطرة الإنسان ،ولا يمكن أن يكون شيء في أعماق وجود الإنسان مخالف للشرع !
وبدون شك فإنّ الشرع يعين حدوداً وقيوداً لقيادة الفطرة لئلا تقع في مسار منحرف ،إلاّ أنّه لا يعارض أصل مشيئة الفطرة ،بل يهديها من الطريق المشروع ،وإلاّ فسيقع التضاد بين التشريع والتكوين ،وهذا لا ينسجم مع أساس التوحيد .
وبعبارة أُخرى: إنّ الله لا يفعل أعمالا متناقضة أبداً ،بحيث يقول أمره التكويني: افعل !ويقول أمره التشريعي: لا تفعل .
2إنّ الدين له وجود نقي خالص من كل شائبة داخل نفس الإنسان ،أمّا الإنحرافات فأمر عارض ،ووظيفة الأنبياء إذن إزالة هذه الأُمور العارضة ،وفسح المجال لفطرة الإنسان في الإشراق .
3إنّ جملة ( لا تبديل لخلق الله ) وبعدها جملة ( ذلك الدين القيّم ) تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً ،وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة !...وإن كان كثير من الناس لا يدركون هذه الحقيقة بسبب عدم رشدهم كما ينبغي !
وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة ،وهي أن الفطرة في الأصل من مادة «فطر » على زنة «بذر » ومعناها شق الشيء من الطول ،وهنا معناها الخلقة ،فكأن ستار العدم ينشق عند خلق الموجودات ويبرز كل شيء منها .
وعلى كل حال فمنذ أن وضع الإنسان قدمه في عالم الوجود ،كان هذا النور متوقداً في داخله ،من أوّل يوم ومن ذلك الحين !
والرّوايات المتعددة التي وردت في تفسير الآية تؤيد ما ذكرناه آنفاً ،وسنتحدث عن ذلك لاحقاً إن شاء الله ،بالإضافة إلى الأبحاث الأُخرى في مجال كون التوحيد فطرياً .
/خ32