{فِى بِضْعِ سِنِينَ} وهو العدد ما بين الثلاثة والعشرة ،كما قيل .
وقد اعتبرت هذه الآية ،التي تحدثت عن غيب المستقبل الذي لم يكن هناك أيّ مؤشر عليه من خلال طبيعة أحداث الحاضر ،وجهاً من وجوه الإعجاز القرآني ،لأن النبي لم يملك علم ذلك في نفسه ،أو في ما يمكن أن يكون قد تعلّمه ،لعدم وجود الوسائل التي تؤدي إلى ذلك ،فلا بد من أن يكون ذلك من وحي علاّم الغيوب الذي لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول .
لله الأمر من قبل ومن بعدُ
{لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} وهذه هي الحقيقة الإيمانية التي تحكم كل قضايا الحياة المتعلقة بالناس في علاقاتهم في ساحة النصر أو الهزيمة ،فقد يتحركون في ذلك بإرادتهم الذاتية ،في ما يأخذون به أو يتركونه من الوسائل الواقعية ،ولكن العمق الأساس للإرادة الإِلهية التي تخطط للحياة قوانينها وسننها الطبيعية ،هو أن الله من وراء كل شيء ،فهو يملك كل الأمر في حركة الواقع ،لأنه هو السبب الأعمق في كل مواقع الأسباب في قانون السببية للأشياء ،ما يجعل الإنسان المؤمن واثقاً بالله في كل الأمور التي يتحرك بها الحاضر ،أو يختزنها المستقبل ،فلا يعيش الإنسان القلق الذي يثير الاهتزاز في داخله أمام أيّ حدثٍ طارىء ،بل يترك الأمر لله من خلال هذه الحقيقة التي تؤكد للناس كلهم بأن الأمر لله من قبل ومن بعد ،وإذا كان الأمر كذلك ،وكانت الحكمة هي الأساس في تدبير الله للكون ،وكانت الرحمة هي الصفة الإلهية التي ترعى للإنسان حياته ،فلا مشكلة هناك ،فيسلّم الأمر له ،وينطلق إلى الأهداف الكبرى بخطواتٍ ثابتة .
وهكذا ينبغي للمؤمنين أن يواجهوا الموقف المعقّد الذي حاول المشركون أن يُسقطوا به روحهم المعنوية ،للإيحاء لهم بالهزيمة المرتقبة لهم ،من خلال هزيمة المؤمنين الآخرين من أهل الكتاب ،على أساس أن انتصار الكفر في موقع يعني انتصار كل الكافرين ،وأن ضعف الإيمان في موقعٍ يعني ضعف كل المؤمنين .
إن عليهم أن يواجهوا المسألة من خلال الحقيقة الإيمانية لا من خلال بعض الأحداث القلقة التي لا تمثل قاعدةً ثابتةً للحياة كلها ،بل هي من بعض أوضاع الحياة العامة التي تنتقل بين انتصار فريق هنا وهزيمة فريقٍ هناك ،وذلك في ما توحي به الآية الكريمة:{وَتِلْكَ الأيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [ آل عمران:140] .
فإذا كان الله قد تكفل بنصر دينه ،فعليهم أن يثقوا بذلك وينتظروا النصر المؤكد منه .