ونقف أمام صورة لقمان الإنسان ،المنفتح على الفكر العملي الذي يبلغ بالإنسان إلى التوازن في حياته بين ما هو الفكر وما هو الواجب ،في ما يأخذ به ،أو يدعه ،لتستقيم له الحياة في الخط المستقيم .
إتيان لقمان الحكمة
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} في فكره وحديثه وحركته في الحياة ،وذلك من خلال ما حرّك به بصره نحو كل الأشياء التي تحيط به ،وتبدو له ،وما أصغى إليه بسمعه من كل ما يتحدث به الآخرون ،وما حرّك به عقله في إدارة ذلك كله ،في مواقع التأمّل والمقارنة والمحاكمة والاستنتاج ،ليعرف مصادر الأمور ومواردها وبدايات القضايا ونهاياتها ،وكيف تنفصل الأشياء وكيف تتصل ،وهكذا كان يواجه الحياة ،ويتحرك فيها مع الآخرين ،ليكون الإنسان الذي ينتج الفكرة من خلال حركة عقله وتجربته ،ثم يجلس مع الناس ليفتح عقولهم عليها ،وليوجّه مشاعرهم إليها .
وبدأ يفكر بالله ،وبنعمه التي يغدقها على الناس ،فيستمر بها وجودهم ،وترتاح معها أوضاعهم ،وتطمئن بها نفوسهم .ثم يتابع التفكير في الموضوع ،كيف يواجه الناس نعم الله ،وكيف يكون موقفهم أمامه ،هل يمرّون بها بروح اللاّمبالاة ،من موقع الألفة التي لا تثير في نفوسهم شيئاً ،مهما كان الشيء المألوف عظيماً ،أو يتوقفون أمامها بروح الجحود الذي يتنكر لكل نعمةٍ ولكل إحسانٍ ،من موقع الشعور المعقّد الذي يثير العقدة ضد المنعم من قِبَل المنعَم عليه ،أو ينطلقون في آفاق الشكر المنفتح على الخير كله ليتفاعلوا مع الخير في عقولهم وأرواحهم وقلوبهم وكل حياتهم ،فيشعرون بالامتنان وعرفان الجميل ،لكل لمسة حنانٍ ،وفيض رحمةٍ ،والتفاتة نعمةٍ ،ونظرة لطفٍ ،وخفقة حياةٍ ،ونبضة روحٍ ،ليتحوّل ذلك إلى شكرٍ في الفكرة والكلمة والحركة ،وفي الحياة لله الذي خلقهم ورزقهم وشفاهم ونصرهم وأنقذهم من كل سوء .
وهكذا اكتشف لقمان الشكر لله ،كقيمةٍ روحيةٍ من أسمى القيم ،ليقدمها لكل من يعي ويسمع ويتحرك في الاتجاه السليم .
الشكر لله
{أَنِ اشْكُرْ للَّهِ} فهو وحده الذي يستحق الشكر من خلال وحدانيته في إغداق النعمة على الإنسان الذي لا مصدر لديه لأية نعمةٍ من النعم التي تحتويها حياته إلا الله ،وليس دور القوى الأخرى المتنوعة الموجودة في الكون إلا دور الأدوات والأسباب المباشرة ،التي تستمد سببيتها من مسبّب الأسباب ،وهو الله .
{وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} من دون أن يكون لله نفعٌ في هذا الشكر أو حاجةٌ إليه ،لاستغنائه عن كل خلقه في كل شيء ،وليس لأحدٍ منهم أن يضيف إلى ملكه شيئاً ،لأنه لا يملك إلا ما ملكه الله ،ولا يتحرك بشيءٍ إلا من خلال قدرتة .
أمَّا رجوع الشكر لنفس الشاكر ،فقد يكون من جهتين:
الأولى: أن الشكر يمثل حركة الإنسانية في داخل الذات في انفعالها بالنعم الإِلهيّة ،ما يجعلها تنفتح على الله في وعيها الروحي لإِحسانه وفضله ورحمته ،وفي ارتفاعها في مدارج السموّ لتصل إلى الموقع الأسمى الذي تصعد من خلاله إلى الوقوف بين يديه في صفاء الشعور ،وابتهال الكلمة ،وعبودية الذات ،وخشوع الموقف ،مما يحقق الصلة بالله أكثر ،ويثير الشعور بالسعادة الروحية بشكل أعمق ،ويدفع بالمعرفة بالله في الفكر والحسّ والوجدان إلى مجال أوسع .
الثانية: أن الشاكر لله ينال الزيادة في نعم الله عليه في الدنيا في ما وعد الله به عباده من ذلك ،مما تمثله الآية{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [ إبراهيم:7] ،كما ينال الثواب والرحمة واللطف من ربه في الآخرة .
{وَمَن كَفَرَ} فلم يشكر النعمة بل جحدها وأهملها وتمرّد على كل إيحاءاتها ،فلن يضر الله شيئاً{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ،فهو الغني عن كل عباده ،وهو الحميد بكل صفات الجلال والجمال في ذاته .