{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} فهو شخصٌ يملك عقله ،ويفكر بطريقةٍ واعيةٍ ،للوصول إلى هدفٍ شخصيٍّ معين ،فيتعمّد الكذب على الله ،ليعطي لكلامه قداسة الأنبياء ،{أَم بِهِ جِنَّةٌ} فهو يتكلم بما لا يعقل ،فيلقي الكلام جزافاً ،من دون وعيٍ لما يدل عليه ،ومن غير قصدٍ لما ينتهي إليه من أمور .
إنهم يخاطبون السطح الساذج للذهنية العامة ،ويطرحون المسألة على أساس أنها دائرةٌ بين احتمالين لا ثالث لهما ،ليبعدوا الناس عن التفكير في المضمون الجدي والنتيجة الحاسمة المتصلة بقضية المصير ،لأنهم لا يريدون للناس أن تفكر ،ويعملون على أساس تطويق الحالة الفكرية بالحرب النفسية التي لا تسمح للفكر أن يتحرك في الاتجاه السليم لمناقشة القضايا المطروحة ،بالإيحاء بأنها ليست مما يوحي بالتأمل ،بل مما يوحي بالدهشة والاستغراب أو الاستهزاء{بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} وهذا هو الرد القرآني الذي يطرح المسألة بالأسلوب نفسه الذي يطرحون به هذين الاحتمالين ،ليصدم الموقف بطريقةٍ سريعةٍ ،تحتوي المشاعر ،وتخفف تأثير الآخرين عليها ،ثم تبدأ في مناقشة الأمور بطريقتها الخاصة .فهؤلاء هم الذين يعيشون في الضلال الغارق في التيه البعيد في مواقعه الممتدة في صحراء الجهل والتخلف والظلام ،كما يعيشون في مواقع العذاب الذي ينتظرهم جزاءً لكفرهم الذي لا يملكون فيه أيّة حجّة ،ولا يستندون معه إلى ركنٍ وثيق .إن المشكلة في الموقف ،هي مشكلتهم في ما يتخبّطون به ،وليست مشكلة النبي في ضلال طروحاته ليدور الأمر بين احتمال كذبه واحتمال جنونه .