وقد جاءت الآيةلتعالج هذه المسألة من زاويةٍ أخرى ،وهي زاوية الترهيب والتهديد ؛فإن الله ينذر هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وبدون حق ،انطلاقاً من القوة التي يشعرون بها تجاه ضعف اليتيم الذي لا يملك القدرة على الدفاع عن نفسه ،كما يحدث في حالات كثيرة ،بأن هذه الأموال ستتحول إلى نارٍ تحرق داخلهم ؛وذلك على سبيل الكناية في ما ينتظرهم من نتائج سلبية في الدنيا والآخرة .
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَامَى ظُلْماً} فيحوزونها لأنفسهم ،ويتصرفون بها في حياتهم الخاصة مستغلّين ضعف اليتيم وفقدان الجهة التي تراقبهم وتحاسبهم وتمنعهم من ذلك ،فيبادرون إلى استعمالها وإبقاء اليتيم من دون مال بفعل عمليّة النهب والاستغلال ؛الأمر الذي يمثّل أبشع أنواع الظلم ،وقد جاء: أن «ظلم الضعيف أعظم الظلم » .{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} فإن هذا الظلم الوحشي الذي يعبر عن فقدان المشاعر الإنسانية في شخصيات هؤلاء الأولياء سوف يتحوّل إلى نار تشتعل في بطونهم عذاباً من الله وعقاباً لهم على ذلك ،وربما كانت المناسبة في هذه الاستعارة أن الإنسان يأكل الطعامعادةًليتغذى وليقوى به وليحصل على الراحة الجسدية بفعل اللذة التي يحس بها ،فجاءت الآية لتصور النتائج في أكل مال اليتيم كمن يأكل ناراً فتشتعل في بطنه لتحرقها وتثير فيه كل آلام الحريق .
وقد جاء في تفسير الميزان أن «الآية مما يدل على تجسّم الأعمال ...ولعل هذا مراد من قال من المفسرين إن قوله:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} كلام على الحقيقة دون المجاز .وعلى هذا لا يرد عليه بما أورده بعض المفسرين ،أن قوله{يَأْكُلُونَ} أريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله:{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} عليه وهو فعلٌ دخل عليه حرف الاستقبال ،فلو كان المراد به حقيقة الأكل ووقته يوم القيامة لكان من اللازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم ناراً ويصلون سعيراً ،فالحق أن المراد به المعنى المجازي وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه ناراً .انتهى ملخصاً .وهو غفلةٌ عن معنى تجسّم الأعمال .
والظاهر أن ما ذكره هذا البعض هو الأقرب لأن التجسم في مضمونه الفكري ،لا معنى له في الواقع الذي يعيشه الإنسان بالنسبة إلى هذه المسألة ،بل هو أمرٌ تُرك إلى يوم القيامة ،فلا معنى للحديث عنه في مرحلة الحياة الدنيا حتى لو كان المراد به تجسّد العمل في طبيعته إلى ذات النار .هذا من جهةٍ ،ومن جهةٍ أخرى ،فإن هذا الرأي خاضعٌ للاستغراق في حرفيّة الكلام القرآني بعيداً عن جانب الاستعارة والكناية ونحوها مما يفهمه العرب بشكلٍ طبيعيٍّ جدّاً بالطريقة التي يفهمون بها التعابير الفنية على أساس القواعد البلاغية بنحو التبادر الذي يسبق إليه الذهن لأول مرّة .وإذا كانت بعض الأحاديث توحي بذلك فإن علينا أن نعرضها على القرآن الذي يؤصّل المفاهيم الإسلامية لتكون الأحاديث خاضعةً لعناوينه وظواهره بدلاً من العكس .
{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} في يوم القيامة فيحترقون في النار ويقاسون عذابها .وقد جاء في تفسير العياشي عن أبي عبد الله أو أبي الحسن( ع ): إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنين: أما إحداهما فعقوبة الآخرة النار ،وأما الأخرى فعقوبة الدنيا قوله:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} قال: يعني بذلك ليخش إن أخلفه في ذريته كما صنع هو بهؤلاء اليتامى .
وقد نلاحظ في هذه المتابعة القرآنية لموضوع علاقة الإنسان بالأيتام بأسلوب الترغيب والترهيب ،في أكثر من آية ،أن الله يريد أن يحقق في داخل كل منا حالة نفسية ضاغطة ،ضد النوازع الذاتية التي قد تدفعه إلى استغلال جانب الضعف المتمثل في حياة الأيتام الذين لا يملكون أمر حماية أنفسهم من الظلم والاضطهاد ،لتكون تلك الحالة سبيلاً من سبل حمايتهم من نوازعنا الشريرة ؛وهذه طريقةٌ قرآنية إسلاميةٌ مستخدمةٌ في جميع الحالات التي نلتقي فيها بواقع القوة والضعف ،في المجالات التي لا يملك فيها الضعيف أمر الدفاع عن نفسه ؛فإن القرآن يواجه المسألة بشكلٍ قويٍّ جداً ،ليخلق التوازن بين واقع الضعف الموجود لدى الفئات الضعيفة ،وبين واقع القوة الموجود في الجانب الآخر ،ليضعف الشعور بالقوة في هذا ،ويقوّي جانب الضعف هناك ،فيمنع القوي من ظلم الضعيف .أمّا في الحالات العادية فإن القرآن يثير التهديد بشكل عادي بالأسلوب المألوف .