فقد عالجت بعض الحالات القلقة ،عندما يترك بعض الناس أولاداً صغاراً ضعافاً ؛وربما يستغلُّ الأولياء السلطة على الأولاد بطريقةٍ سيئّةٍ فيسيئون إليهم ،ويواجهونهم بالقهر والقسوة والإذلال ،ويتصرفون في أموالهم تصرفاً غير شرعي ،فجاءت هذه الآية لتعالج هذه الناحية من موقع إثارة العاطفة الذاتية في ما يمكن للإنسان مواجهته في هذه التجربة في أولاده الذين قد يتركهم للآخرين ،وهم ذريةٌ ضعافٌ ،كما ترك الآخرون ذريتهم له ،فإذا أحسن التصرف مع أولاد الآخرين ،كان ذلك موجباً لإحسان الآخرين لأولاده من بعده ،وإذا أساء ،كانت النتيجة إساءةً لعقبه من بعده .وقد أجملت الآية المسألة بكلمتين: التقوى ،التي تمثل الممارسة العملية على خط الله ؛والقول السديد ،الذي يمثل الكلمات الطيبة الصادقة في التوجيه والإحسان .
الانحراف لدى الأفراد قد يتحول إلى انحراف عام
وقد أثار بعض الناس سؤالاً: إذا أساء إنسان ما التصرف في أولاد الآخرين ،فما ذنب عقبه ،ليبتليه الله بأناس يسيئون التصرف معهم من بعده ،والله يقول:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [ الأنعام:164] ؟
والجواب عن ذلك: أن المسألة تنطلق من قاعدة اجتماعية ،وهي أن السلوك المنحرف من بعض أفراد المجتمع ،في موقع من المواقع ،يتحول تدريجياً إلى وضع اجتماعي عام ،قد ينقلب عليه أو على من يتعلق به في نهاية المطاف ؛كما أن السلوك الجيد المستقيم يتحرك في خط المصلحة له ولمن بعده ،من خلال النتائج الإيجابية التي يحققها للمجتمع ككل .وربما كان هذا هو المعنى الذي نستوحيه من قوله تعالى:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [ الأنفال: 25] .والحديث المأثور عن النبي( ص ): «لتأمُرُن بالمعروف ،أو لتنهنّ عن المنكر ،أو ليسلطنَّ الله شراركم على خياركم ،فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم » .فإن طبيعة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤدي إلى تسلّط الأشرار على الأخيار ،لامتداد الشرّ ،بامتناع الناس من الوقوف بوجهه وملاحقته ؛واستسلامهم للأمر الواقع ،فيتحوّل الأشرار إلى قوّةٍ في المجتمع ،ويعيش الأخيار في مراكز الضعف .
وقد جاء في الحديث الشريف عنه( ع ) ،في الوجه الإيجابي من المسألة: «وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم ...»[ 2] .فإن رعاية الأيتام من قِبَلِنا يترك تأثيره على المجتمع ،ليعودبعد ذلكفي حجم الظاهرة الاجتماعية التي نستفيد منهافي نهاية المطاففي أنفسنا وأولادنا .وربما نستوحي ذلك من الكلمة المأثورة: «كما تكونون يولّى عليكم » ،فإن المجتمع إذا كان خيّراً ،فإن الولاة سوف يخرجون إلى الولاية متّسمين بأخلاق المجتمع وصفاته الحسنة ؛أما إذا كان شريراً ،فإن أخلاق الشر هي التي تصبغ شخصيتهم ،فيسيئون إلى المجتمع من خلال الجو الذي شارك في تربيتهم السلبية ؛فإن شخصية القيادة هي غالباً النتيجة الطبيعية للواقع الاجتماعي في المفاهيم والتربية والأوضاع ،وبهذا نفهم هذه الآية الكريمة ،على أساس أن السلوك المنحرف في أيتام الآخرين يوحي للمجتمع بالسير في هذا الاتجاه ،لأن الخطوة الأولى من شخصٍ أو أشخاصٍ تتبعها خطوة أو خطوات من غيره ،فليتقوا الله في ذلك من موقع المسؤولية من جهة ،ومن موقع الشعور العاطفي تجاه ذريتهم ؛وليقدّموا العمل الإيجابي من خلال الاهتمام والتحنّن على أيتام الآخرين ،لينعكس ذلك على تصرف الآخرين تجاه أيتامهم في المستقبل ،لما يحققه ذلك من وضع اجتماعي منسجم وشامل في نهاية المطاف .
اتقوا الله في اليتامى
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} ليفكر هؤلاء الذين يتولون شؤون الأيتام ممن قد تدفعهم النفس الأمارة بالسوء إلى الخيانة في أموالهم والإساءة إلى مشاعرهم وتحطيم نفسياتهم بالتعسف والقسوة ،ماذا لو فارقوا الحياة وخلفوا وراءهم أيتاماً ضعافاً لا يملكون أيّ عنصرٍ من عناصر القوة الذاتية في حماية أنفسهم وأموالهم ؟ألا يخشون على مستقبلهم ويعيشون القلق عليهم والخوف من إهمال الآخرين من الأولياء لهم وأكلهم لأموالهم مما يجعلهم في قبضة الضياع والفساد ؟فإذا كانوا يعيشون هذا الهاجس النفسيوهم أحياءفإن عليهم أن يتصوروا واقع الأيتام في ولايتهم ممن فقدوا رعاية الآباء فيعيشوا الرحمة لهم والعطف عليهم والتوفر على رعايتهم وحفظ أموالهم من أنفسهم ومن غيرهم ،فإن للقضية بُعدين .
البُعد الأول: هو مسؤوليتهم الشرعية الإنسانية عنهم باعتبار ارتباط حياتهم في حركة طفولتهم في اتجاه المستقبل بمسؤوليتهم أمام الله والناس مما يجب عليهم القيام بها بكل أمانة وإخلاص .
البُعد الثاني: أن سلوكهم في اتجاه الأمانة في العناية بالأيتام يتحوّلبانضمام أولياء الآخرين إلى ذلكإلى سنّةٍ اجتماعيةٍ تترك نتائجها الإيجابية على الواقع كله فيمتد إلى أيتامهم في المستقبل في رعاية الآخرين لهم ،تماماً كما هي السُنّة الحسنة التي يبدأ الإنسان في السير وفقها فيستفيد منها في القضايا المنفتحة عليها .{فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ} في هذه الأمانة الإلهية التي حمّلهم الله مسؤولياتها وليراقبوه في ذلك كله إذا دعتهم النفس الأمارة بالسوء إلى الخيانة ،ووسوس لهم الشيطان باستغلال قدرتهم الذاتية على التصرف المطلق في أموال اليتيم ليدفعهم إلى أكلها بدون حق ،{وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} منفتحاً على البرنامج الشرعي في التجربة العملية والانفتاح الواعي ،والعاطفة النقية والكلمة الطيبة الحلوة ،التي تغمر اليتيم بالمشاعر الحميمة التي توحي له بالثقة وتدفعه إلى الاطمئنان ،وتعوّضه عما فقده من حنان الأبوة أو عاطفة الأمومة .
وقد جاءت الآية توجيهاً لكل الناس في رعاية اليتامى بأمانةٍ وإخلاصٍ حتى الذين ليس لهم ذريةٌ يخافون عليهم ،لأن المسألة جارية على طريقة ضربَ المَثَل في الفرضيّات الواقعية في حركة الإنسان في الحياة التي تؤكد الترابط في السلوك الاجتماعي من خلال التزام الناس بالقيمة الأخلاقية في العناية بالفئات الضعيفة المحرومة في المجتمع من موقع المسؤولية الدينية والإنسانية ،فإن القضية في سلبياتها وإيجابياتها تنعكس على واقع الناس بأجمعهم سلباً أو إيجاباً بشكل مباشر أو غير مباشر ،الأمر الذي يوحي بأن الخير أو الشر الصادر من الإنسان لا يؤثر في حياة الآخرين ،بل يمتد إلى حياة الإنسان نفسه في كل واقعه وفي كل علاقاته العامة والخاصة .