ثم قال تعالى:( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا )
المفردات:( وليخش ) أمر من الخشية وهي كما في المعاجم الخوف وقال الراغب هي خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ولذلك خص العلماء بها في قوله:( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر:28] .
وأقول:إن القيد الذي ذكره لا يظهر في كل الشواهد التي وردت من هذا الحرف في القرآن وكلام العرب فلم يكن عند عنترة خوف مشوب بتعظيم ولا علم فيما عبر عنه بقوله:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن *** للحرب دائرة على ابني ضَمْضَمِ{[427]}
فإن كان بين الخوف والخشية فرق فالأقرب عندي أن تكون الخشية هي الخوف في محل الأمل .ومن دقق النظر في الآيات التي ورد فيها حرف الخشية يجد هذا المعنى فيها ، ولعل أصل الخشية من مادة خشت النخلة تخشو إذا جاء ثمرها دقلا ( رديئا ) وهي مما يرجى منها الجيد .ولم يرد في الآية ذكر مفعول"ليخش "فالظاهر أن المراد منه الأمر بالتلبس بالخشية كقوله:( وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ) [ عبس:8-9] أو حذف المفعول لتذهب النفس في تصوره إلى كل ما يخشى في ذلك ، وقال الراغب أي ليستشعروا خوفا من معرته ، وقال الأستاذ الإمام:ليخشوا الله ( قولا سديدا ) قال المفسرون السديد هو العدل والصواب .وهو لا يكون من المتدين إلا موافقا لحكم الشرع .وقالوا سد قوله يسد"بكسر السين "إذا كان سديدا ، وهو يسد في القول إسدادا:يصيب السداد"بالفتح "وهو القصد والصواب والاستقامة ، والسداد"بكسر "البلغة وما يسد به الشيء كالثغر والقارورة .وقولهم"سداد من عوز "ورد بفتح السين وبكسرها وهو الأفصح .وإذا كان السديد مأخوذ من سد الثغر فالقول السديد هو المحكم الذي تدرأ به المفسدة وتحفظ المصلحة كما أن سداد الثغر يمنع استطراق شيء منه يضر ما وراءه .
قال الأستاذ الإمام:في الآية وجهان ، أحدهما:إن المطالبين بالقول السديد في هذه الآية هم المطالبون بالقول المعروف في الآية التي قبلها فتكون هذه الآية معللة للأمر بالقول المعروف في تلك متصلة بها مباشرة .ذلك أنه يجوز أن ينهى بعض حاضري القسمة عن رزق اليتامى والمساكين الذين يحضرونها وهذا يكثر في الناس لا سيما إذا كان الورثة من الأغنياء الوجهاء فإن الناس يتحببون إليهم بما يوهم الغيرة على أموالهم .فإن الله تعالى يذكر هؤلاء الذين يحولون دون عمل البر بأن يخافوا الله أن يتركوا بعد موتهم ورثة ضعفاء يحتاجون ما يحتاجوا حاضروا القسمة وطالبوا البر من اليتامى والمساكين فيعاملوا بالحرمان والقسوة- فهو يرشدهم إلى معاملة هؤلاء الضعفاء مثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم إذا تركوهم ضعافا .
والوجه الثاني:إن الخطاب للأوصياء والأولياء الذين يقومون على اليتامى فهو بعد الوصية بحفظ أموالهم وحسن تربيتهم بابتلائهم واختبارهم بالعمل ليعرف رشدهم أمرهم بإحسان القول لهم أيضا فإن اليتيم يجرحه أقل قول يهين لا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء .وقد جرت العادة بتساهل الناس في مثل هذه الأقوال وإن كانوا عدولا حافظين للأموال محسنين في المعاملة ، فقلما يوجد يتيم في بيت إلا ويمتهن ويقهر بالسوء من القول وذكر والديه بما يشينهما ولذلك ورد التأكيد بالوصية باليتامى في الكتاب والسنة .
أقول:وللمفسرين في الآية أقوال أخر ، وقد اختار ابن جرير منها- لاختياره أن ما قبلها في قسمة الوصايا- إنها في الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله ويكون له ذرية ضعفاء ، فالله تعالى يأمر هؤلاء أن يخافوا على ذرية هذا الرجل مثل ما يخافون على ذريتهم لو تركوا ذرية ضعافا فلا يقولوا في الوصية ما يمكن أن يضر بذرية الموصي كالترغيب في تكثير الوصية للغرباء بل يقولوا قولا سديدا بأن يرغبوه فيما يرضون مثله لأنفسهم ولذريتهم من بعدهم ، وروى ابن جرير مثل هذا الرأي عن ابن عباس وقتادة والسدي وسعيد بن جبير ومجاهد .وروي عن غيرهم أن الآية في ولاة اليتامى يأمرهم الله أن يحسنوا معاملتهم كما يحبون أن يحسن الناس معاملة ذريتهم الضعاف لو تركوهم وماتوا عنهم .وروي عن ابن عباس أنه قال فيها"يعني الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة ( أي الفقر ) والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم ، يقول فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا يكفيهم أمر ذريتهم بعدهم "وهذا موافق للوجه الثاني مما قاله الأستاذ الإمام إلا أنه لم يبين هنا معنى القول السديد الذي يجب أن يقال كما بين هناك .
وهناك قول ثالث:هو أنها أمر للورثة بحسن معاملة من يحضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين كما يحبون أن يحسن الناس معاملة ذريتهم لو كانوا مثلهم وعلى هذا يكون معنى الأمر بالتقوى أن يتقوا الله فيما أمرهم به من رزق هؤلاء عند القسمة ، ويكون الأمر بالقول المعروف مؤكدا لمثله في تلك الآية .
وفيها قول رابع:وهو أنها أمر للمؤمنين كافة أن يتبصروا في أمر ذريتهم فلا يسرفوا في الوصية .فقد كان بعضهم يحب أن يوصي بجميع ماله كما في حديث سعد ابن أبي وقاص المتفق عليه وفيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأذن له بالثلث إلا بعد المراجعة المرة بعد المرة وقال"والثلث كثير ، لأن تذر أولادك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس "{[428]} أي فليتقوا الله في ذريتهم وليقولوا في تقرير الوصية قولا سديدا أي قريبا من العدل والمصلحة ، بعيدا من استطراق المضرة ، ويجوز أن تشمل كل ما ذكره .
وحاصل معنى الآية:ليكن من أهل الخشية- أو ليخش العاقبة ، أو الله- الذين لو تركوا بعدهم ذرية ضعافا خافوا أن يسيء الناس معاملتهم ويهينوهم فلا يقولوا ما يترتب عليه ضرر بذرية أحد بل ليقولوا قولا محكما يسد منافذ الضرر فكما يدين المرء يدان .