المحارم في الإسلام
وهذا تشريع إسلامي يتناول المحارم من النساء اللاتي حرّم الله على الرجال الزواج بهنّ ،من خلال علاقات النسب والرضاع والزواج ...وربما كان ،في هذا اللون من التشريع ،تخطيطٌ لنظام الأسرة في إيجاد مساحة واسعة من العلاقات الإنسانية بين الرجال والنساء ،التي يعيش فيها المجتمع المشاعر الطاهرة التي لا تتحرك من أيَّ إحساس جنسيٍّ ،نتيجة ما يثيره التحريم من حواجز نفسية ضد ذلك الإحساس ،مما يفسح المجال لحرية الاختلاط بعيداً عن المشاكل السلبية التي قد تحدث من خلاله في بقاء الرجال والنساء في حالة اختلاط ...وبذلك يمكن للأسرة الصغيرة داخل البيت ،وللأسرة الكبيرة داخل العائلة ،أن تحافظ على توازن العلاقات في الحياة اليومية بشكل لا يثير أية مشكلةٍ أخلاقيةٍ .وقد نستطيع اعتبار مثل هذه الحواجز النفسية وسيلةً عملية من وسائل التربية الإسلامية التي يراد من خلالها تركيز المناعة الأخلاقية في بعض العلاقات القريبة الحميمة ،من خلال ما يوحيه للذات من مشاعر وأحاسيس تتصل بالعمق الداخلي من حركة الشخصية الإنسانية ،ليتعلّم كيف يقف عند حدود الله من خلال جذور البناء المتماسك للذات المرتكز على الإيمان ،كما يقف عند حدوده في التوجيهات العامة الاتية من أوامر الله ونواهيه ،بعيداً عن الجوانب الذاتية الداخليّة .
ولا بد للتربية الإسلامية من الانطلاق في الاتجاه الذي يعمل على إثارة التشريع كعقدةٍ متأصلةٍ في الذات ،لا سيّما في مثل هذه العلاقات المتصلة بالجانب الجنسي من حياة الإنسان ،لينطلق الالتزام كحاجزٍ نفسيٍّ يحول بين الإنسان وبين الإقدام على الانحراف ،لأن ذلك هو الذي يحمي للتشريع قوته في حركة الإنسان العمليّة .
وقد حاول دعاة الانحراف والضلال مواجهة ذلك بإثارة الأجواء التي تخفف من حالة الرفض النفسي للعلاقات المحرّمة ،فبدأت بالقصص والأفلام والأبحاث التي تحاول أن تجعل منها شيئاً طبيعياً في حياة الإنسان ،وتعمل على إرجاع الاستنكار إلى تقاليد وعادات قديمة ،لا ترتكز على أساس ثابت في عمق المصلحة الإنسانية .وقد ساعدت هذه الأجواء في تحطيم كثير من الحواجز النفسية التي تمنع الأب من إقامة علاقة مع ابنته ،أو تنكر على الأخ إقامة علاقة مع أخته ،وبدأنا نقرأ في صفحات الجرائد والمجلات أخبار الجرائم من هذه القضايا الأخلاقية المنحرفة التي اعتبرت لوناً من ألوان الحرية الجنسية .
وقد نحتاج في مواجهة ذلك إلى التحرّك على أكثر من صعيد ،من أجل تطويق هذه الحملة والعودة بالإنسان إلى حالة الالتزام العملي بهذه الحدود الأخلاقية ،على أساسٍ من حركة الدين والأخلاق في فكر الإنسان وضميره ،كجزءٍ من مواجهة المفاهيم المنحرفة التي تعمل على تحويل المسيرة الإنسانية في غير الخط السليم .
وقد اعتبر الإسلام علاقة الرضاع من العلاقات المحرمة ؛فإذا تحقق الرضاع ضمن شروطه الشرعية المذكورة في كتب الفقه ،فإنه يحقّق ،في نطاق العلاقات ،وجهاً من وجوه التحريم ،في ما يفرضه من عنوان الأم والأخت والبنت وغيرها من العناوين اللاحقة لذلك… وقد تحدّثت الآيات عن الأم والأخت الرضاعيتين ،ولكن الاقتصار عليهما لا يعني انحصار التحريم فيهما ،لأن أيَّ عنوان من هذه العناوين يفرض حدوث العناوين الآخرى التابعة لها بشكل طبيعيٍّ .وقد جاءت السنة المطهرة ،لتعطي الموضوع حجم القاعدة في الحديث النبوي المأثور: «إن الله حرّم من الرضاعة ما حرم من النسب » .
أما العلاقات المحرَّمة الناشئة من علاقات الزواج ،فقد تحدثت الآية عن بنت الزوجة التي يطلق عليها اسم الربيبة ،بشرط أن تكون الزوجة مدخولاً بها ؛أما إذا لم تكن كذلك ،فلا تحريم إلا من حيث الجمع بين الأم وابنتها ،فإذا طلّق الأم كان له الحق في زواج البنت .وقد ذكر الفقهاء والمفسرون أنه لا يشترط كون البنت في حجر الزوج في التحريم ،بل اعتبر القيد وارداً مورد الغالب ،لا مورد التحديد ؛وعن أم الزوجة بشكل مطلق ؛وعن زوجة الابن النسبي والرضاعي ،وعن أخت الزوجة جمعاً لا عيناً ،فلا يجوز له الجمع بين الأختين ،ولا مانع من الزواج بإحداهما إذا طلّق الأخرى .وقد استثنى القرآن الحالات السابقة على التشريع ،فأقرّها في قوله{إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} .وقد ذكر الفقهاء: أن ولد الولد وولد البنت ،في امتداد السلسلة ،يتساويان مع الولد في حرمة الزوجة على الجد ،لصدق العنوان عليه .
وقد تحدثت الآيات عن تحريم المحصنات من النساء المتزوّجات ،فلا يجوز التزوج بهنّ ؛وبهذا أغلق الإسلام الباب في موضوع تعدد الأزواج للمرأة الواحدة ،انطلاقاً من التخطيط الإسلامي للأسرة في اعتبار الرجل هو الأساس في النسب وفي إدارة شؤون الأسرة ،بالإضافة إلى ما ألمحنا إليه سابقاً من عدم وجود أسباب ضرورية في موضوع تعدد الأزواج ،كما هو الحال في تعدد الزوجات .
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ،فلا يجوز لكم الزواج بهن ،ومنهن الجدات للأم وللأب .{وَبَنَاتُكُمْ} وتشمل الكلمة بنات البنات والأولاد وإن نزلن .{وَأَخَواتُكُمْ} سواء أكنّ للأبوين أم لأحدهما ،ولا مانع من الزواج بأخت الأخ إذا لم تكن أختاً له ،وأخت الأخت إذا لم تكن أختاً له ،كما إذا كان لأخيك من طرف الأب أو أختك من طرف الأب أو أخت من طرف الأم التي كانت متزوجةً بإنسانٍ آخر غير الأب ،فولدت له بنتاً ثم ولدت الأخ من الأب .{وَعَمَّاتُكُمْ} والعمة هي كل أنثى أخت لرجل يرجع نسبك إليه بالولادة مباشرة أو بالواسطة ،فتصدق على أخت الأب وأخت الجد ،وعلى ضوء هذا تحرم عمة الأم ،لأنها أخت لجدك من أمك .{وَخَالاتُكُمْ} الخالة هي كل أنثى أخت لمن يرجع نسبك إليها بالولادة مباشرة أو بالواسطة ،فتشمل أخت أمك وأخت جدتك وخالة أبيك{وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ} وتمتد إلى بنات أولادهما وبناتهما في السلسلة في خط النزول{وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} بالشروط المعتبرة في تحريم الرضاع الذي ورد الحديث النبوي الشريف فيه الذي عمل به الجميع: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » وعلى هذا ،فإن أيّ عنوان نسبيّ ينطبق على عنوان رضاعي ،يؤدي إلى التحريم ،فكل امرأة حرمت من الرضاع تحرم مثلها من الرضاع ،سواء أكانت أمّاً أم أختاً أم بنتاً أم عمة أم خالة أم بنت أخ أم بنت أخت ،وإذا كان القرآن لم يتحدث إلاّ عن الأم والأخت من الرضاعة ،فإن الباقي يفهم من طبيعة المبدأ واقتضاء الأمومة والأبوّة واقتضائهما العمومة والخؤولة ،واقتضاء الأخوّة عنوان ابنة الأخ والأخت ،وهكذا ...
وربما كان الأساس في سرّ تحريم الرضاع للزواج هو أن نبات لحم الرضيع واشتداد عظمه بلبن الأم يجعله كأولادها من حيث إنه جزء من بدنها ،لأن نموّه كان من خلال عناصرها الجسدية في غذائه ،كما هو جزء من بدنها .{وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} فإن أم الزوجة تحرم على الزوج ،سواء أكانت أمّاً بشكل مباشر كالأم ،أو بالواسطة كالجدة ،من دون فرق بين الدخول بالزوجة وعدمها ،وهناك قول نادر باشتراط الدخول بالزوجة في حرمة أمها .
{وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وبهذا لم تحرم الربيبة على زوج الأم في حالة عدم الدخول بالأم ،فيجوز له الزواج بها بعد طلاق الأم ،ولكن لا يجوز الجمع بينهما ،أما قيد{اللاتي فِى حُجُورِكُمْ} فقد أشرنا أنه ليس وارداً على نحو الشرطية ،بل على نحو الفرد الغالب ،لأن الغالب أن تكون البنت في حجر أمها لحاجتها إليها في الحضانة والرعاية .وفي ضوء ذلك تثبت الحرمة في صورة عدم كونها في حجرها .وربما كان هذا القيد إشارة إلى أن الربائب تشارك سائر الأصناف من الاشتمال على ملاك التحريم وحكمته ،وهو الاختلاط الواقع المستقر بين الرجل وسائر الأصناف من النساء والمصاحبة الغالبة بين هؤلاء في المنازل والبيوت ،«فلولا حكم الحرمة المؤبدة ،لم يمكن الاحتراز من وقوع الفحشاء بمجرد تحريم الزنى »كما يقول صاحب الميزان .
{وَحَلائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصلابِكُمْ} فلا تحل زوجة الابن النسبي لأبيه ،ولا يشمل ذلك ولد التبنيّ ،أمّا الولد الرضاعي ،فحكمه في ذلك حكم الولد النسبي انطلاقاً من الحديث المأثور: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » ،فتحرم زوجته على أبيه الرضاعي ،ويلحق بالابن ابن الابن إلى آخر السلسلة .
{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ،فلا يجوز الزواج بأخت زوجته ما دامت زوجته معه أو كانت في عدة الطلاق الرجعي ،فإذا فارق زوجته وانتهت عدتها الرجعية ،جاز له الزواج بأختها بعد ذلك ،وإذا طلقها طلاقاً بائناً ،جاز له الزواج بأختها في أثناء العدة البائنة .وربما كان الأساس في حرمة الجمع بين الأختين ،هو أن الانتماء إلى زوج واحد ،يخلق بينهماغالباًالكثير من التنافس عليه ،كما في سائر الضرائر ،مما يؤدي إلى التنافر والتضاد الشعوري الذي يحطم العلاقة الأخوية المبنية على المودة والمحبة ويحوّلها إلى حالة من الصراع المرير المستمر الذي ينطوي على مشاكل كثيرة وتعقيدات صعبة .
أما قوله{إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فهو جار على غرار قوله:{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} .فقد كانوا في الجاهلية يجيزون ذلك ،فيجمعون بين الأختين ،فكانت الآية تمثل الحكم بالعفو عنه من حيث شرعية النتائج الناتجة عن العلاقة الزوجية السابقة من انتساب الأولاد شرعاً إلى آبائهم وأمهاتهم وإجراء أحكام القرابة عليهم كأية ولادة شرعية ،ولكنها لا تثبت الاستمرار في شرعيته إذا كان باقياً في زمن نزول الآية .
فقد ورد في اسباب النزول أن النبي( ص ) فرق بين الأبناء وبين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية وقد احتمل صاحب تفسير الميزان أن يكون قوله تعالى:{إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} راجعاً إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختص بقوله{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ،فإن العرب وإن كانت لا ترتكب من هذه المحرمات إلا الجمع بين الأختين ،ولم تكن تقترف نكاح الأمهات والبنات وسائر ما ذكر في الآية ،إلا أن هناك أمماً كانت تنكح أقسام المحارم ،كالفرس والروم وسائر الأمم المتمدنة وغير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه ،والإسلام يعتبر صحّة نكاح الأمم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم ،فيحكم بطهارة مولدهم ويعتبر صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق هذا لكن الوجه الأول أظهر .
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} فإن الإسلام يجب ما قبله ،فلا مسؤولية على المسلم الذي كان يمارس الانحراف عن خط الشريعة قبل إسلامه .