التّفسير
تحريم الزّواج بالمحارم:
في هذه الآية أشار سبحانه إِلى النساء اللاتي يحرم نكاحهنّ والزواج بهنّ ،ويمكن أن تنشأ هذه الحرمة من ثلاث طرق أو أسباب وهي:
1الولادة التي يعبّر عنها بالارتباط النّسبي .
2الزّواج الذي يعبّر عنه بالارتباط السّببي .
3الرّضاع الذي يعبّر عنه بالارتباط الرّضاعي .
وقد أشار في البداية إِلى النساء المحرمات بواسطة النّسب وهنّ سبع طوائف إِذ يقول{حرمت عليكم أُمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأُخت} .
ويجب التّنبيه إِلى أنّ المراد من «الأُمّ » ليس هي التي يتولد منها الإِنسان دونما واسطة فقط ،بل يشمل الجدّة من ناحية الأب ومن ناحية الأُمّ وإن علون ،كما أنّ المراد من البنت ليس هو البنت بلا واسطة ،بل تشمل بنت البنت وبنت الابن وأولادهما وإن نزلن ،وهكذا الحال في الطوائف الخمس الأخرى .
ومن الواضح جدّاً أنّ الإِنسان يبغض النكاح والزواج بهذه الطوائف من النسوة ،ولهذا تحرمه جميع الشعوب والجماعات ( إِلاّ من شذ وهو قليل ) ،وحتى المجوس الذين كانوا يجوزون هذا النوع من النكاح في مصادرهم الأصلية ينكرونه ويشجبونه اليوم ،وإِن حاول البعض أن يردّ هذه المبغوضية إِلى العادة والتقليد القديم ،ولكن عمومية هذا القانون وشيوعه لدى جميع أفراد البشر وطوائفه وفي جميع القرون والأعصار تحكيعادةعن فطرية هذا القانون ،لأن التقليد والعادة لا يمكن أن يكون أمراً عامّاً ودائمياً .
هذا مضافاً إِلى أنّ هناك حقيقة ثابتة اليوم ،وهي أنّ الزواج بين الأشخاص ذوي الفئة المشابهة من الدم ينطوي على أخطار كثيرة ،ويؤدي إِلى انبعاث أمراض خفية وموروثة ،وتشددها و تجددها ( لأنّ هذا النوع من الزواج يولد هذه الأمراض ،بل يساعدها على التشدد والتجدد والانتقال ) إِلى درجة أنّ البعض لا يستحسن حتى الزواج بالأقرباء البعيدين ( فضلا عن المحارم المذكورة هنا ) مثل الزواج الواقع بين أبناء وبنات العمومة{[738]} ويرون أنّه يؤدي هو الآخر أيضاً إِلى أخطار تصاعد الأمراض الوراثية .
إِلاّ أنّ هذا النوع من الزواج إِذا لم يسبب أية مشكلة لدى الأقرباء البعيدين ( كما هو الغالب ) فإِنّه لا شك يسبب مضاعفات خطيرة لدى الأقرباء القريبين الذين تشتدّ عندهم ظاهرة وحدة الدم وتشابهه .
هذا مضافاً إِلى ضعف الرغبة الجنسية والتجاذب الجنسي لدى المحارم عادة ،لأنّ المحارمفي الأغلبيكبرون معاً ،ويشبّون معاً ،ولهذا لا ينطوي الزواج فيما بينهم على عنصر المفاجأة وصفة العلاقة الجديدة ،لأنّهم تعودوا على التعامل فيما بينهم ،فلا يكون أحدهم جديداً على الآخر ،بل العلاقة لديهم علاقة عادية ورتيبة ،ولا يمكن أن يكون بعض الموارد النادرة مقياساً لانتزاع القوانين الكلية العامّة أو سبباً لنقض مضاداتها ،ونحن نعلم أن التجاذب الجنسي شرط أساسي لدوام العلاقة الزوجية واستمرار الرابطة العائلية ،ولهذا إِذا تمّ التزاوج بين المحارم فإن الرابطة الزوجية الناشئة من هذا الزواج ستكون رابطة ضعيفة مهزوزة وقصيرة العمر .
{وأُمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة}
يشير الله سبحانه في هذه الآية إِلى المحارم الرّضاعية والقرآن وإِن اقتصر في هذا المقام على الإِشارة إِلى طائفتين من المحارم الرضاعية ،وهي الأُم الرضاعية والأُخت الرضاعية فقط ،إِلاّ أنّ المحارم الرضاعيةكما يستفاد من روايات عديدةلا تنحصر في من ذكر في هذه الآية ،بل تحرم بالرّضاعة كل من يحرمن من النساء بسبب «النسب » كما يصرّح بذلك الحديث المشهور المروي عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب »{[739]} .
على أن بيان مقدار الرّضاع الموجب للحرمة والشروط والكيفية المعتبرة فيه ،وغير ذلك من التفاصيل والخصوصيات متروك للكتب الفقهية .
وفلسفة حرمة الزواج بالمحارم الرضاعية هي ،أن نشوء ونبات لحم المرتضع وعظمه من لبن امرأة معينة تجعله بمثابة ابنها الحقيقي ،فالمرأة التي ترضع طفلا مقداراً معيناً من اللبن ينشأ وينبت معه ومنه للطفل لحم وعظم ،فإِنّ هذا النوع من الرضاع يجعل الطفل شبيهاً بأبنائها وأولادها لصيرورته جزء من بدنها كما هم جزء من بدنها ،فإِذا هم جميعاً ( أي الأخوة الرضاعيون والأخوة النسبيون كأنّهم إخوة بالنسب .
ثمّ إنّ اللّه سبحانه يشيرفي المرحلة الأخيرةإِلى الطائفة الثالثة من النسوة اللاتي يحرم الزواج بهنّ ويذكرهنّ ضمن عدّة عناوين:
1{وأُمهات نسائكم} يعني أن المرأة بمجرّد أن تتزوج برجل ويجري عقد النكاح بينهما تحرم أُمها وأُم أُمها وإِن علون على ذلك الرجل .
2{وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ}
يعني أنّ مجرّد العقد على امرأة لا يوجب حرمة نكاح بناتها من زوج آخر على زوجها الثّاني ،بل يشترط أن يدخل بها أيضاً مضافاً على العقد عليها .
إِنّ وجود هذا القيد في هذا المورد ( دخلتم بهنّ ) يؤيد كون حكم أُمّ الزوجة الذي مرّ في الجملة السابقة ( وأمهات نسائكم ) غير مشروط بهذا الشرط ،وبعبارة أُخرى إِن هذا القيد هنا يؤيد ويؤكّد إِطلاق الحكم هناك ،فتكون النتيجة أن بمجرّد العقد على امرأة تحرم أُمّ تلك المرأة على الرجل وإِن لم يدخل بتلك المرأة ،لخلو ذلك الحكم من القيد المشروط هنا في مورد الرّبيبة .
ثمّ أنّ قيد ( في حجوركم ) وإِن كان ظاهره يفهم منه أنّ بنت الزوجة من زوج آخر إِذا لم ترب في حجر الزوج الثاني لا تحرم عليه ،ولكن هذا القيد بدلالة الروايات ،وقطعية هذا الحكمليس قيداً احترازياًبل هو في الحقيقة إِشارة إِلى نكتة التحريملأن أمثال هذه الفتيات اللاتي تقدم أُمّهاتها على زواج آخر ،هنّ في الأغلب في سنين متدنية من العمر ،ولذلك غالباً ما يتلقين نشأتهنّ وتربيتهنّ في حجر الزوج الجديد مثل بناته ،فالآية تقول إِن بنات نسائكم من غيركم كبناتكم أنفسكم ،فهل يتزوج أحد بابنة نفسه ؟واختيار وصف الربائب التي هي جمع الرّبيبة ( لتربية الزوج الثاني إِيّاها فهي مربوبته ) إِنّما هو لأجل هذا .
ثمّ يضيف سبحانه لتأكيد هذا المطلب عقيب هذا القسم قائلا: ( فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم ) أي إِذا لم تدخلوا بأم الرّبيبة جاز لكم نكاح بناتهنّ .
3( وحلائل{[740]}أبنائكم الذين من أصلابكم ) والمراد من حلائل الأبناء زوجاتهم ،وأمّا التعبير ب «من أصلابكم » فهو في الحقيقة لأجل أن هذه الآية تبطل عادة من العادات الخاطئة في الجاهلية ،حيث كان المتعارف في ذلك العهد أن يتبنى الرجل شخصاً ثمّ يعطي للشخص المتبني كل أحكام الولد الحقيقي ،ولهذا كانوا لا يتزوجون بزوجات هذا النوع من الأبناء كما لا يتزوجون بزوجة الولد الحقيقي تماماً ،والتبني والأحكام المرتبة عليها لا أساس لها في نظر الإِسلام .
4( وأن تجمعوا بين الأُختين ) يعني أنّه يحرم الجمع بين الأُختين في العقد ،وعلى هذا يجوز الزواج بالأُختين في وقتين مختلفين وبعد الانفصال عن الأُخت السابقة .
وحيث أنّ الزواج بأُختين في وقت واحد كان عادة جارية في الجاهلية ،وكان ثمّة من ارتكبوا هذا العمل فإِن القرآن عقب على النهي المذكور بقوله: ( إِلاّ ما قد سلف ) يعني إِنّ هذا الحكم كالأحكام الأخرى لا يشمل الحالات السابقة ،فلا يؤاخذهم الله على هذا الفعل وإن كان يجب عليهم أن يختاروا إِحدى الأُختين ،ويفارقوا الأخرى ،بعد نزول هذا الحكم .
يبقى أن نعرف أنّ سرّ تحريم هذا النمط من الزواج ( أي التزوج بأُختين في وقت واحد ) في الإِسلام لعلّه أن بين الأُختين بحكم ما بينهما من نسب ورابطة طبيعيةعلاقة حبّ ومودّة ،فإِذا أصبحتا متنافستين في ظل الانتماء إِلى زوج واحد لم يمكنهما الحفاظ على تلك المودّة والمحبّة والعلاقة الودية بطبيعة الحال ،وبهذه الصورة يحدث هناك تضاد عاطفي في وجود كل من الأُختين يضرّ بحياتهما ،لأن كلّ واحدة منهما ستعاني حينئذ وبصورة دائمية من صراع حالتين نفسيتين متضادتين هما دافع الحب ،وغريزة التنافس ،وهو صراع نفسي مقيت ينطوي على مضاعفات خطيرة لا تحمد عقباها .
ثمّ إن بعض المفسّرين احتمل أن تعود جملة ( إِلاّ ما قد سلف ) إِلى كل المحارم من النسوة اللاتي مرّ ذكرهنّ في مطلع الآية فيكون المعنى: إِذا كان قد أقدم أحد في الجاهلية على التزوج بإِحدى النساء المحرم عليه نكاحهنّ لم يشمله حكم تحريم الزواج بهنّ هذا ،وكان ما نتج من ذلك الزواج الذي حرم في ما بعد من الأولاد شرعيين ،وإِن وجب عليهم بعد نزول هذه الآية أن يتخلوا عن تلكم النساء ،ويفارقوهنّ .
وتناسب خاتمة هذه الآية أعني قوله سبحانه وتعالى: ( إِنّ الله كان غفوراً رحيماً ) هذا المعنى الأخير .