سبب النّزول:
كانت العادة في الجاهلية أنّه إِذا مات رجل وخلف زوجة وأولاداً ،وكان الأولاد من زوجة أُخرى ورثوا زوجة أبيهم كما يرثون أمواله ،أي أنّه كان يحق لهم أن يتزوجوا بها أو يزوجوها لأحد ،وأن يتصرفوا فيها كما يتصرفون في المتاع والمال ،وقد حدث مثل هذابعد ظهور الإِسلاملأحد المسلمين ،فقد مات أحد الأنصار يُدعى «أبو قيس » وخلف زوجة وولداً من زوجة أُخرى ،فاقترح الولد عليها الزواج بها ،فقالت تلك المرأة له: إِني أعتبرك مثل ابني وأنت من صالحي قومك ،ولكن آتي رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاستأمره واستوضحه الحكم ،فأتته فأخبرته .فقال لها رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): «ارجعي إِلى بيتك » فأنزل الله هذه الآية تنهى عن هذا النوع من النكاح بشدّة .
التّفسير:
هذه الآيةكما ذكرنا في شأن النّزولتبطل عادة سيئة من العادات الجاهلية المقيتة فتقول:{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء} أي لا تنكحوا زوجة أبيكم .
ولكن حيث أنّ القانون لا يشمل ما سبق من الحالات الواقعة قبل نزول القانون عقب سبحانه على ذلك النّهي بقوله:{إِلاّ ما قد سلف} .
ثمّ أنّه سبحانه لتأكيد هذا النهي يستخدم ثلاث عبارات شديدة حول هذا النوع من الزواج والنكاح إِذ يقول أوّلا:{إِنّه كان فاحشةً} ثمّ يضيف قائلا:{ومقتاً} أي عملا منفراً لا تقبله العقول ،ولا تستسيغه الطباع البشرية السليمة ،بل تمقته وتكرهه ،ثمّ يختم ذلك بقوله:{وساء سبيلا} أي أنّها عادة خبيثة وسلوك شائن .
حتى أنّنا لنقرأ في التاريخ أنّ الناس في الجاهلية كانوا يكرهون هذا النوع من النكاح ويصفونه بالمقت ،ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت ،أي الأولاد المبغوضين .
ومن الواضح أنّ هذا الحكم إِنّما هو لمصالح مختلفة وحكم متنوعة في المقام ،فإِن الزواج بامرأة الأب هو من ناحية يشبه الزواج بالأُمّ ،لأن امرأة الأب في حكم الأُمّ الثانية ،ومن ناحية أُخرى اعتداء على حريم الأب وهتك له ،وتجاهل لاحترامه .
مضافاً إِلى أنّ هذا العمل يزرع عند أبناء الأب الميت بذور النفاق بسبب النزاع على نكاح زوجته ،وبسبب الاختلاف الواقع بينهم في هذا الأمر ( أي في من يتزوج بها ) .
بل إِنّ هذا النوع من النكاح يوجب الاختلاف والتنافس البغيض بين الأب والولد ،لأنّ هناك تنافساً وحسداً بين الزوجة الأُولى والزوجة الثّانية غالباً ،فإِذا تحقق هذا النكاح ( أي نكاح زوجة الأب من جانب الولد ) في حياة الوالد ( أي بعد طلاقها من الأب طبعاً ) كان السبب في الحسد واضحاً ،لأنّ امرأة الأب ستحظى بهذا الزواج منزلة أرفع ،ممّا يؤدي إِلى تأجج نيران الحسد لدى الزوجة الأخرى أكثر ،وأمّا إِذا تحقق بعد وفاته فإِنّه من الممكن أن يوجد لدى الابن نوعاً من الحسد بالنسبة لأبيه .
هذا وليس من المستبعد أن تكون التعابير الثلاثة الواردة في ذم هذا النوع من النكاح إِشارات إِلى هذه الحِكَم الثلاث لتحريم نكاح امرأة الأب على وجه الترتيب .