{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ} من الإحصان وهو المنع ،يقال: أحصنت المرأة نفسها إذا عفّت فحفظت نفسها وامتنعت عن الفجور ،قال تعالى:{الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [ التحريم:13] .أي عفّت ،ويقال: أحصنت المرأةبالبناء للفاعل والمفعولإذا تزوجت ،فأحصن زوجها أو التزوج إياها من غير زوجها ،وهذا هو المراد من الآيةعلى الظاهرلا ما قيل من أن المراد من إحصان المرأة كونها حرّة ،مما يمنعها من أن يمتلك الغير بضعها ،أو منعها ذلك من الزنى ،لأن ذلك كان فاشياً في الإماءكما يقولونوهكذا تكون الفقرة واردة للمنع من زواج المتزوجات من أشخاص آخرين ،سواء أكانت المرأة عفيفة أم غير عفيفة ،أو كانت حرةً أم مملوكةً ،لأن الزواج المتعدد ،ليس مشروعاً بالنسبة إلى المرأة ،بل تقتصر شرعيته على الرجل .
{إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} ،وقد استثنى القرآن من المحصنات ملك اليمين ؛إذا كانت الأمة متزوجة ،ووقعت في الأسر في حرب المسلمين والمشركين ،أو أراد سيّدها أن يسترجعها بعد الزواج ،فيستبرئها وينال منها في ما أفاض فيه الفقهاء في كتب الفقه .
ثم أكدت الآية التحريم بكلمة:{كِتَبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ،كأسلوب من أساليب للإيحاء بقوة التشريع ،باعتبار أنه مما كتبه الله الذي يملك أمر الإنسان في جميع مجالات حياته العمليّة .
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} لم يربط القرآن التحليل بعنوان معين ،بل أطلقه في النطاق الخارج عن العناوين المحرّمة ،ولكن ضمن شروط معينة ،منها دفع المهر ،على أساس الأسباب الشرعية التي جعلها الشارع أساساً لشرعية العلاقات كالعقود ونحوها ،مما يكون فاصلاً بين العفةالزواج وما يلحق به من الطرق المشروعة الذي عبرت عنه الآيات بالإحصانوبين السفاح .وقد ذكر الفقهاء مخصصات لهذا العموم ،في ما جاءت به السنّة المطهّرة من بعض العوارض الطارئة التي يمكن أن توجب التحريم في بعض الحالات ،مما هو مذكور في كتب الفقه .
{أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وذلك بأن تقدموا أموالكم في إقامة العلاقة بينكم وبين النساء اللاتي أحلهن الله لكم على أساس النكاح الشرعي لا على أساس الزنى والسفاح ،فإن ذلك هو السبيل الوحيد الذي رخص الله فيه في علاقة الرجل بالمرأة ،فلا إطلاق في الحلّية أن يمارس الرجل والمرأة في الجانب الجنسي بدون عقد ،لأن الممارسة لن تكون شرعية في الإسلام .
الآية وزواج المتعة
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} هذا تفريع على ما تقدّم ،وتقرير للفكرة التي تدخل إلى عمق المعنى الذي يوحيه المهر ،من خلال ما يرمز إليه من اعتباره لوناً من ألوان التعويض بمحبة عما يحصل عليه الزوج من الاستمتاع ؛بالإضافة إلى المعاني الآخرى التي يريدها الله للزواج ،من حيث كونه مرتكزاً على المودّة والرحمة والوحدة الروحية بين الزوجين ...وقد انطلق القرآن في إعطاء ذلك طابعاً روحياً ،عندما اعتبره فريضة من الله ،على خلاف الكلمات غير الدقيقة التي تحتقر جانب الاستمتاع في الزواج وترى فيه إهداراً لكرامة المرأة ،لأنه يمثل نوعاً من البيع والشراء ونحوهما من المعاني التي لا تقترب من احترام إنسانية المرأة ...ولكن الإسلام يريد من الإنسان أن ينظر إلى الزواج نظرة واقعية تضع كل الأشياء الحسية والمعنوية في نطاقها الطبيعي المعقول ،فلا تغفل أي جانب من الجوانب الطبيعية ،التي يتمثل فيها الجانب الجنسي كشيء بارز كبير ،ليكون المفتاح الذي يفتح للزوجين الأبواب الآخرى للزواج ؛وبهذا لم تكن النظرة إليه سوداء ،بل كانت بيضاء واضحة تتحرك في النور ،في كل ما يثار حوله من أحاديث .وليس ذلك إلا لأن الإسلام يريد من الإنسان أن يتعاطى مع غرائزه وشهواته وتطلعاته كموجود حي يعيش على الأرض ،كما هو في تكوينه الذاتي ؛فإذا أراد أن يرتفع به ،فإنه يعمل على ذلك من خلال إنسانيته بكل ما تتطلبه من معطيات ،وما تفرضه من حاجات ،وما تنطلق فيه من تطلعات روحية ومادية ؛فهو لا يريده ملاكاً ،بل يريده إنساناً يعيش في ماديته بعضاً من وحي الملاك .
وهكذا أراد القرآن أن يسمي الأشياء بأسمائها ،فهناك استمتاع ،وهناك أجر على ذلك ،ولكنه قد يختلف في معطياته عن معنى الأجر في غيره من الأشياء والأعمال .
هذا بعض ما نستوحيه من هذه الفقرة ،في ما تتضمنه من التعبير .ولكن المفسرين لم يتوقفوا عند ذلك ،بل دخلوا في مجالات أخرى ،فتساءلوا هل هذه الفقرة مجرّد تأكيد لمعنى المهر ووجوب دفعه ؟أو هي بيان لزواج من نوع آخر عرفه المسلمون في عصر الدعوة ثم اختلفوا بعد ذلك في حليته وحرمته ،وهو «زواج المتعة » الذي هو الزواج إلى أجل مسمى ضمن شروط معينة ،تلتقي مع الزواج الدائم في بعضها وتختلف عنه في بعضها الآخر ؟!
المعروف بين المفسرين من علماء الشيعة وبعض علماء السنة ،أن المقصود بها زواج المتعة ،وقد أوضح ذلك صاحب تفسير الميزان العلاّمة الطباطبائي ،فقال:
«والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك ؛فإن الآية مدنيّة نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي( ص ) بعد الهجرة ،على ما يشهد به معظم آياتها ؛وهذا النكاحأعني نكاح المتعةكانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شكوقد أطبقت الأخبار على تسلّم ذلكسواء كان الإسلام هو المشرّع لذلك ،أو لم يكن ،فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمعٍ منه لا شك فيه ؛وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبّر عنه إلا بهذا اللفظ ،فلا مناص من كون قوله:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} محمولاً عليه مفهوماً منه هذا المعنى .
كما أن سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة ،كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشيء من تلك الأسماء بإِمضاء أو ردٍّ أو أمر أو نهي ،لم يكن بدٌّ من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها ،من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية ،وذلك كالحج والبيع والربا والربح والغنيمة وسائر ما هو من هذا القبيل ...فلم يمكن لأحد أن يدّعي أن المراد بحج البيت قصده ،وهكذا ...وكذلك ما أتى به النبي( ص ) من الموضوعات الشرعية ،ثم شاع الاستعمال حتى عرفت بأساميها الشرعية ،كالصلاة والصوم والزكاة وحج التمتع وغير ذلك ،لا مجال بعد تحقق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الأصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعة فيها .فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية ،سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنّة أو لم نقل ؛فإنما هو أمر آخر .
وجملة الأمر ،أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة ،وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين ،كابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم ؛وهو مذهب أئمة أهل البيت( ع ) .
ومنه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية ،أن المراد بالاستمتاع هو النكاح ؛فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها ،هذا وربما ذكر بعضهم أن السين والتاء في «استمتعتم للتأكيد » ،والمعني: تمتعتم ،وذلك لأن تداول نكاح المتعة ( بهذا الاسم ) ومعروفيته بينهم لا يدع مجالاً لخطور هذا المعنى اللغوي لذهن المستمعين » .
وهكذا نجد في هذا الاتجاه ،في تفسير هذه الفقرة من الآية ،ارتكازاً على الكلمةالمصطلح «الاستمتاع » ،من خلال ما توحيه كلمة «زواج المتعة » في مفهوم الصحابة آنذاك الذي تنقله الروايات التي تحدثت عن هذا النوع من الزواج ،وما فهمه منه المفسرون من الصحابة وغيرهم ،ولا سيما ما جاءت به القراءة المروية: «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى » ،مما يعيّن هذا المعنى ؛فإن هذه الكلمة إذا لم تكن جزءاً من النص ،فإنها تعتبر تفسيراً له .وهذا ما يجعل القوة في جانب هذا التفسير ،إذا كان الأمر دائراً بين المعنيين بحسب طبيعة النص في ذاته .
الخلاف الإسلامي في زواج المتعة
وقد اختلف المسلمون من المفسرين والفقهاء في هذا الزواج ،بين قائل بأن الإسلام قد شرَّعه ،من خلال هذه الآية أو غيرها ،في فترة من الزمان ،ثم حرّمه بعد ذلك ،كما هو الحال في كثير من الأحكام الشرعية التي يعرض عليها النسخ ،وبين قائل بأنه لا يزال مباحاً كما كان ،لأن التشريع قد ثبت بإجماع المسلمين في فترةٍ من فترات التشريع ،ولم يثبت لنا النسخ ،لأن الآيات التي ذكرت في هذا المجال لا تصلح للنسخ ،إما من جهة عدم منافاتها لهذه الآية ،لأن نسبتها إليها نسبة الخاص إلى العام ،مما يجعل الموضوع في نطاق تخصيص العام ،لا في نطاق نسخ العام للخاص ؛وإما من جهة تأخر هذه الآية ،المدعى كونها منسوخة ،عن الآيات التي اعتبرت ناسخة ،مما لا يترك مجالاً لتوهم نسخ المتقدم للمتأخر .أما الأخبار التي ادعي كونها ناسخة ،فقد يناقش بإسنادها أولاً ،وباضطرابها ثانياً ،لأنها تختلف في تاريخ التحريم ،وبأنها أخبار أحاد ثالثاً .ولا بد في ثبوت النسخ ،لا سيما نسخ القرآن بالخبر المتواتر .وقد استفاضت الأخبار بأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب هو الذي نهى عنها ،من دون أن ينسب التحريم إلى الرسول( ص ) ،مما يدل على أنه من التوجيهات الإدارية التي كان يصدرها ،انطلاقاً من اجتهاده الخاص ،مما لا يكون ملزماً للمسلمين في السير عليه من ناحية شرعية بعد أن كان ثابتاً بأصل الشريعة ؛ولهذا رأينا بعض كبار المسلمين من الصحابة وغيرهم من قبله ومن بعده ،يمارسون هذا الزواج ويفتون به ،من دون أن يجدوا حرجاً في ذلك .
وقد أجمع أئمة أهل البيت( ع ) على استمرار إباحته ،وتشجيع أتباعهم على ممارسته من أجل بقاء هذه السنّة حيّة في حياة الأمة ؛وقد روى الكثيرون من الثقاة قول الإمام علي( ع ) «لولا ما فعل عمر بن الخطّاب في المتعة ما زنى إلا شفا » أي إلا قليل من الناس ؛وروي: «إلا شقي » .
وقد وقع الخلاف بين المسلمين من علماء السنّة وعلماء الشيعة في أمر هذا الزواج من ناحية فقهية وتفسيرية ،مما حفلت به الكتب الموسعة من التفاسير وكتب الفقه .وقد أجملنا الفكرة العامة للخلاف من خلال ما قدمناه من حديث ،ونترك للقارىء أن يرجع إلى ما كتبه العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان ،والعلامة العسكري في مقدمة كتاب «مرآة العقول » وغيرهما من الأعلام الذين تحدثوا عن هذا الزواج في كتب مستقلة .
المتعة في الجانب الاجتماعي للمشكلة الجنسية
وقد نلاحظ في هذا المجال ،أن المسألة قد تحتاج إلى دراسة من ناحية أخرى ،وهي أن المبررات التي ذكرها بعض الباحثين لتشريع هذا الزواج ،في بعض الحالات الطارئة في عصر الرسالة ،لا تزال تفرض نفسها على الواقع الذي يحتضن أوضاعاً وحالات كثيرة ،قد تزيد في صعوباتها عن تلك الحالات .فإذا كان ذلك هو المبرر للتشريع في نظر هؤلاء ،فلا بد من أن يبقى الحكم مستمراً باستمرار مبرّره ،مما يجعل من موضوع النسخ أمراً غير واضح في ملاكاته .ونحن نعرف أن النسخ يعنيفي مفهومه العلميانتهاء أمد الحكم الأول بانتهاء أمد المصلحة التي ساهمت في وجوده ،وحدوث مصلحةٍ أخرى في الاتجاه المعاكس من أجل حكم آخر مخالف .
هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فإن الإسلام ينطلق في تشريعه للأحكام الشرعية من منطلق واقعي ،في ما يواجهه الإنسان من مشاكل ،لتكون الحلول الموضوعة له في حجم تلك المشاكل ،لئلا يحتاج الإنسان إلى الوقوع في قبضة الانحراف ،أو إلى البحث عن الحلول العملية لدى مبادىء أخرى .وعلى ضوء ذلك ،يمكننا أن نلاحظ كيف يسير الزنى جنباً إلى جنب مع الزواج الدائم ،في كل مراحل التاريخ في جميع بلدان الأرض ،مما يوحي بوجوده كظاهرة إنسانية مستمرة .وقد لا نستطيع تفسيره دائماً بأنه يمثل الرغبة في الانحراف والتمرد على الشرعية والقانون ،بل ربما كان من الراجح تفسير ذلك بأن الزواج الدائم لا يمثل الحل الشامل الكامل للمشكلة الجنسية ،مما يفرض تشريعاً آخر يكمل الحلّ ويلغي الحاجة إلى الانحراف ؛وهذا هو ما نستوحيه من الكلمة المأثورة عن الإمام علي( ع ) «لولا ما نهى عنه عمر من أمر المتعة ما زنى إلا شفا » ،لأن هذا الزواج يواجه الحالات التي يحاول الإنسان فيها أن يلجأ إلى الزنى ،هرباً من قيود الزواج الدائم .
ونحن لا نريد أن نعتبر مثل هذه الملاحظات أساساً فقهياً ،لإثبات هذا الحكم الشرعي في مواجهة المنكرين له ،لأننا نعرف جيداً أن الأحكام الشرعية خاضعة في إثباتها ونفيها للمصادر التشريعية الأساسية من الكتاب والسنة ؛بل كل ما نريد أن نقوله ،إنها تستطيع أن تعطي الوجه الإيجابي للرأي الذي يقدّم الإثباتات الشرعية لهذا الحكم ،ليكون ذلك مؤيداً لما ثبت بالدليل لا دليلاً عليه ؛والله العالم بحقائق أحكامه .
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} .إن المسلمين يخضعون لالتزاماتهم الشرعية في ما يتعاقدون به من عقود ،انطلاقاً من أن الوفاء بالعقود هو سمة الإنسان المؤمن ،ولكن ذلك لا يمنعهم من أن يتفقوا على أشياء أخرى في غير الحدود المتفق عليها من زيادةٍ ونقصان ،لأن ذلك يمثل تنازل صاحب الحق عن حقه برضاه ؛وفي ذلك تأكيد للالتزام ،لا انحراف عنه ،وهذا ما عالجته هذه الفقرة من الآية ،حيث أتاحت للمؤمنين المتعاقدين في عقود الزواج أن يتراضوا في ما بينهم بما يشاؤون من بعد الفريضة ؛فقد يزيدون عليه ،وقد ينقصون منه ،من موقع حرية الإرادة والقرار .