تجاوب المسلم مع المبادرات الروحية
إن الله يريد للإنسان المسلم أن يعبر عن تجاوبه وتفاعله مع كل المبادرات الروحية والعاطفية ؛فإذا حيّاه إنسان بتحية ،فعليه أن يردها بتحية مماثلة أو أحسن منها ،لأن التحية بادرة محبة وعاطفة ،ولا سيما إذا كانت التحية تحية الإسلام ،وهي كلمة «السلام عليكم » ،لأن هذه الكلمة توحي بكل الأحاسيس والأفكار والأجواء التي تحملها كلمة السلام ،في ما توحيه من المبادرة التي يقدمها الإنسان لأخيه ،ليعبر له فيها بأن علاقته به هي العلاقة التي توحي بالأمن والطمأنينة وعدم الاعتداء ،ويطلب منه أن يبادله بها ،سلاماً بسلام ،ومحبة بمحبة .والله لا يريد من الإنسان أن يتنكر لهذه الدعوة ولهذه العاطفة ،ولذا اعتبر ردّ السلام واجباً عند الفقهاء ،انطلاقاً من هذه الآية .وقد يكون ذلك أحد الوسائل الإسلامية التي يستهدف الإسلام منها توثيق الروابط بين الناس وبين المؤمنين بشكل خاص ،وللتأكيد على أن يكون الإنسان إيجابياً في هذا المجال ،فيمد اليدبكل محبةلليد التي تمتد إليه لتصافحه أو لتصالحه أو لتعاهده ،في حدود العلاقات الإنسانية التي لا تتنكر للمبادىء والقيم .
وقد يظهر من الآية أنّ التحية ،إذا استوحينا منها المعنى العام ،كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمامين الباقر والصادق( ص ) أن المراد بالتحية في الآية السلام وغيره من البرّتشمل كل مبادرة صادرة من الإنسان تجاه الإنسان الآخر ،كالرسالة المعبرة عن الحب ،وبطاقات المعايدة والهدية والزيارة ،مما يصدق عليه كلمة التحية عرفاً .
قال أنس: حيت جارية للحسن بن علي( ع ) بطاقة ريحان ،فقال لها: أنت حرة لوجه الله .فقلت له في ذلك ،فقال: أدّبنا الله تعالى فقال:{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْها} .
ولعلنا نفهم ذلك من التركيز على نقطةٍ حيوية ،وهي أن التحيةبمعنى السلاملا خصوصية لها في المعاني الإنسانية ،لأن القضية هي أن التحية تمثل مبادرةً إنسانيةً تعبّر عن انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر بعنوان المحبّة ،مما يفرضبحسب التخطيط الإسلامي للعلاقات الاجتماعية الإنسانية في الخط الأخلاقيأن يُرد عليها بمثلها أو بأفضل منها ،في كل ما يطلب فيه الردّ ،لأن عدم التفاعل مع هذه المبادرة يوحي بالتنكر للمعنى الإنساني الكامن في داخلها ،مما قد يؤدي إلى بعض السلبيات الاجتماعية التي تمثل انحرافاً عن الخط الإسلامي في ربط الناس ببعضهم البعض في القيمة الأخلاقية الإنسانية .
وقد تترتب على هذا الاستيحاء القرآني بعض النتائج الفقهية في وجوب الردّ على كل مبادرة تمثل معنى التحية مما يطلب فيه الردّ بحسب العرف العام .
الإسلام وإفشاء السلام
أما بالنسبة إلى تحية ( السلام ) التي جعلها الإسلام عنوان التحية التي يبادر بها المسلمون بعضهم بعضاً أو غيرهم ممن يعيشون روح السلام مع المسلمين أو لا يعيشون روح الحرب ضدهم ،أمّا هذه التحية ،فقد حدثنا القرآن أن السلام هو التحية التي تنطلق من الله في وعي المسلم الذي يبادر بها الآخر وذلك هو قوله تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ} [ سورة النور:61] ،مما يوحي بأن أصل عبارة «سلام الله عليكم » أي ليمنحك الله السلام أو أنني أقدم لك السلام من خلال تحية الله لعباده المؤمنين التي يلقيها عليهم يوم القيامة:{سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [ يس:58] ،ويعيش معها المؤمن في غرفة الجنة:{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسلاماً} [ الفرقان:75] .ويحيّي أهل الجنة بعضهم بعضاً بها{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [ إبراهيم:23] .وهكذا نرى أن الملائكة حيّوا إبراهيم بها{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [ الذاريات:25] .
وقد أراد الله للناس أن يجعلوها كلمتهم الأولى قبل الكلام الذي يفيضون فيه ،فقد جاء عن النبي محمد( ص ) أنه قال: «من بدأ بالكلام قبل السلام ،فلا تجيبوه » ،وجاء عن الإمام محمد الباقر( ع ) «إن الله يحب إطعام الطعام وإفشاء السلام » ،وعن الإمام جعفر الصادق( ع ) «البخيل من بخل بالسلام » وقد جاء عن النبي( ص ) قال: «خيركم من أطعم الطعام ،وأفشى السلام ،وصلى والناس نيام » .
وكان النبي يبادر الآخرينحتى الأطفال الصغاربالسلام ،لأنه رسول المحبة إلى الناس .ولذلك فلا معنى له مع الفاسقين والمرابين والمنافقين الذين يرفض الإسلام احترامهم والإيحاء لهم بعلاقة السلام معهم ،لأن المعركة بين الخير والشر مفتوحة معهم باعتبار تجسيدهم للشر المتمثل في عقولهم وقلوبهم وسلوكهم المنحرف .وربما كان ختام الآية بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيء حَسِيباً} موحياً بأن القضية تخضع لحساب الله ،ليتحرك الإنسان فيها من موقع المسؤولية .