مناسبة النزول
جاء في مجمع البيان: قيل: لما نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين وهو جندع أو جندب بن ضمرة وكان بمكة فقال: والله ما أنا مما استثنى الله ،إني لأجد قوّةً وإني لعالم بالطريق ،وكان مريضاً شديد المرض ،فقال لبنيه: والله لا أبيت بمكة حتى أخرج منها ،فإني أخاف أن أموت فيها ،فخرجوا يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات ،فنزلت الآية
الضعف الذاتي ليس مبرراً للاستسلام
هل الضعف الذاتي لدى الإنسان يعتبر مبرراً للاستسلام لمخطّطات المستكبرين في العقيدة وفي السلوك ،فينحرفون معهم إذا انحرفوا ،وينفذون خطط الظلم للآخرين إذا أرادوا ذلك ؛ويمتد بهم الانحراف والضلال ،ثم يقفون بعد ذلك أمام الله ليبرروا أعمالهم ،بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض ،لا يملكون القدرة التي يستطيعون من خلالها الوقوف في وجه المستكبرين ؟!.
إن هذه الآيات تحدد الاستضعاف الذي يمكن للإنسان أن يجد فيه السبيل للعذر أمام الله ،والاستضعاف الذي لا عذر للإنسان معه ؛لأن القضية لا تخضعفي ذاتهاللحالة الآنية التي يعيشها الإنسان ،بل للظروف الموضوعية المحيطة به في حركة الحاضر والمستقبل ،والفرص المتنوعة المتاحة له ،للخروج من هذا الجو الخانق أو ذاك ،والإمكانات المختلفة باختلاف المكان والزمان ؛فإذا كان يملك فرصة مستقبلية لعملية صنع القوة في المستقبل ،فعليه أن ينتظر تلك الفرصة ،فلا يستسلم تحت ضغط الضعف الحالي إلا بمقدار ما يتمكن من ترتيب عملية القفز نحو المستقبل من مواقعه الحاضرة .وإذا كان هناك مكان جديد يستطيع أن ينمّي قوته فيه ،بعيداً عن التحديات الضاغطة ؛فعليه أن يهاجر إليه من أجل التزوّد بالقوة اللازمة للتصدي لمواقع الظلم والطغيان ،والعمل على تهديم كيانها ،وإضعاف قوتها ،بل إزالتها نهائياً ،بل إزالة قوتها .وهذا ما عبّرت عنه هذه الآيات في أسلوبٍ يتحدث عن الموضوع من خلال علاقته بالمصير الذي ينتظر الإنسان في الآخرة على أساس سلوكه في الدنيا ،وذلك بتقديم أحد النماذج المستسلمة لحالة الاستضعاف مع قدرتها على تجاوزها إلى حالة قوة ...
ظلم النفس من الكفر والضلال
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} فقد جاءتهم الملائكة لتتوفاهم بأمر الله الذي أوكل إليهم أمر الموت ،وكانوا في حالة الظلم لأنفسهم لأنهم انحرفوا في العقيدة والعمل .وهذاأعني ظلم النفس وهو تعبير قرآني مميز عن الكفر والضلال الذي يؤدي بالإنسان إلى الهلاك ،مما يجعل السير في طريقه ظلماً للنفس وتعريضاً لها للعذاب الأليم… ولم يترك الملائكة هذه الحالة بدون حساب ،فقد أوكل الله إليهم أمر التحقيق في أعمال الناس الذين يتوفونهم ؛وبدأت عملية التحقيق{قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} ما هي الأجواء التي كنتم تتحركون في داخلها ؟وما هي الأسباب التي أدّت بكم إلى هذا السلوك ؟وما هي مبرراتكم التي تقدمونها بين أيديكم لتدافعوا بها عن أنفسكم ؟{قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} ،فلم تكن لنا قدرة على مواجهة هؤلاء الناس الذين يفرضون علينا العقيدة الباطلة والسلوك المنحرف ،ولا يسمحون لنا بالتعرف على العقيدة الحقة ،لأنهم يغلقون عنا سبل المعرفة من جميع الجهات ،فلا نجد أمامنا إلا الباطل الذي يحيط بنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمالنا ،ولا نملكفي الوقت ذاتهحرية الحركة ،في ما نريد أن نقوم به من عمل في نطاق الحق والهدى ،لأنهم يحددون لنا الساحة التي نتحرك فيها ويحيطونها بأسلاك شائكة ،تمنع النفاذ منها إلى ساحات أخرى .
{قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} ؟ولم يقتنع الملائكة بالجواب ،بل حاولوا التوسع في التحقيق ،لتحديد الحالة التي تخضع لحساب المسؤولية في واقعهم الفكري والعملي ؛فسألوهم عن إمكانيات الفرص البديلة للواقع الذي عاشوه ،وعما إذا كانت هناك أرض أخرى حرة ،لا يسيطر عليها المستكبرون ؛بل تنطلق فيها الحرية الفكرية والعملية بأوسع مداها ،مما يتيح لها مجال المعرفة الحرة والسلوك الحر ،وكان السكوت هو الرد الذي قابلوا به هذا السؤال ،لأنهم لا يملكون الإنكار أمام الحقيقة الحاسمة التي كانت تتمثل في حياتهم ؛فقد كانت لهم مجالات للهجرة إلى المواقع الجديدة التي يخرجون بها من حالة الاستضعاف هذه ،ولكنهم استسلموا لحالات الاسترخاء والكسل والخشية من المتاعب الجسدية والمالية ونحوها ،وعاشوا في خدمة المستكبرين ؛وبذلك حقّت عليهم كلمة الله ،وقامت عليهم الحجة{فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً ..} .
أما إذا كان هذا الإنسان لا يملك الفرصة للهجرة ليتحرّر من ضغط القوى المستكبرة عليه ،كما في الكثير من النماذج البشرية المسحوقة التي لا تملك الوسائل المتحركة لاستعمال الحيلة في الخروج من المأزق ،ولا تهتدي السبيل للهجرة ،لعجز في الطاقة الجسدية ،أو لضعف في الإمكانات المادية والمعنوية ؛فهؤلاء قد يجدون بعض العذر عند الله ،وهذا ما عبرت عنه هذه الآية بأسلوب الاستثناء من القاعدة السابقة .