/م97
فقال:
{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} الخ توفي الشيء أخذه وافيا تاما ، وتوفي الملائكة للناس عبارة عن قبض أرواحهم عند الموت ، ولفظ توفاهم .
هنا يحتمل أن يكون فعلا ماضيا أي توفتهم الملائكة ، وكل من تذكير الفعل وتأنيثه جائز هنا .وعلى هذا تكون العبارة حكاية حال ماضية ، ويكون سحب حكمهم على جميع من كانت حاله مثل حالهم بطريق القياس .ويحتملوهو الأقربأن يكون فعلا مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين فيكون الحكم فيه عاما بنص الخطاب .والمعنى أن الذين تتوفاهم الملائكة بقبض أرواحهم عند انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بعدم إقامة دينهم وعدم نصره وتأييده ، وبرضاهم بالإقامة في الذل والظلم حيث لا حرية لهم في أعمالهم الدينية{ قالوا فيم كنتم} أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم ( وفيه الالتفات على الوجه المختار ):في أي شيء كنتم من أمر دينكم .قال في الكشاف معنى "فيم كنتم "التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا .يعني أن الاستفهام يراد به التوبيخ على شيء معلوم ، لا حقيقة الاستعلام عن شيء مجهول ، ولهذا حسن في جوابه .
{ قالوا كنا مستضعفين في الأرض} وهو اعتذار من تقصيرهم الذي وبخوا عليه بالاستضعاف أي إننا لم نستطع أن نكون في شيء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا ، فرد الملائكة هذا العذر عليهم و{ قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن ولا هو من شأنه .أي إن استضعاف القوم لكم لم يكن هو المانع لكم من الإقامة معهم في دارهم بل كنتم قادرين على الخروج منها مهاجرين إلى حيث تكونون في حرية من أمر دينكم ولم تفعلوا{ فأولئك مأواهم جهنم} قيل أن هذا هو خبر"إن الذين توفاهم الملائكة "وقيل بل خبره قوله: "قالوا فيم كنتم "وقيل محذوف .ومعنى الجملة سواء كانت هي الخبر أم لا أن أولئك الذين لم يكونوا على شيء يعتد به من أمر دينهم لإقامتهم بين الكفار الذين يصدونهم عن ذلك مأواهم ومسكنهم في الآخرة نار جهنم{ وساءت مصيرا} أي وقبحت جهنم مأوى ومصيرا لمن يصير إليها لأن كل ما فيها يسوءه لا يسره منه شيء .قيل إنه توعدهم بجهنم كما يتوعد الكفار لأن الهجرة للقادر كانت شرطا لصحة الإسلام ، وقيل بل كانوا من المنافقين الذين أظهروا الإسلام ولم يتبطنوه .وهناك وجه آخر هو الذي يلجأ إليه في مثل هذا جمهور الفقهاء وهو أن جهنم تكون لهم مأوى موقتا على قدر تقصيرهم وما فاتهم من الفرائض في الإقامة مع الكفار تحت سلطانهم وما عساهم اقترفوا ثم من المعاصي .
قال في الكشاف بعد تفسير الآية:وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسبابوالعوائق عن إقامة الدين لا تنحصرأو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة ، حقت عليه المهاجرة .ثم ختم الكلام فيها بدعاء أبان فيه أنه إنما هاجر إلى مكة فرارا بدينه ليتمكن من إقامته كما يجب .
وهاك ما عندي في الآية عن درس الأستاذ الإمام:ذكر تعالى في الآية السابقة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين لغير عجز فعلم أن العاجز معذور ، ومعنى سبيل الله الطريق الذي يرضيه ويقيم دينه .ثم ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصر الدين بل وعن إقامته حيث هو ، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم .ولكنهم في الحقيقة غير معذورين لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم ، فهم بحبهم لبلادهم ، وإخلادهم إلى أرضهم ، وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ، ضعفاء في الحق لا مستضعفون ، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا بعزة المؤمنين ، ومن خير الآخرة بإقامة الحق ، فظلمهم لأنفسهم عبارة عن تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند عشرائهم المبطلين .وهذا الاعتذار هو نحو مما يعتذر به الذين جاروا أهل البدع على بدعهم في هذا العصر وفي كثير من الأعصار ، يعتذرون بأنهم يجبّون الغيبة عن أنفسهم ويدارون المبطلين ، وهو عذر باطل ، فالواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم ، وللفقهاء خلاف في الهجرة هل وجوبها مضى أو هو مستمر في كل زمان ؟ والمالكية على الوجوب قال:ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه ، أو يؤذى فيه إيذاء لا يقدر على احتماله .وأما المقيم في دار الكافرين ولكنه لا يمنع ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر وذلك كالمسلمين في بلاد الإنكليز لهذا العهد بل ربما كانت الإقامة في دار الكفر سببا لظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه اه ( أي إذا كان المسلمون المقيمون هنالك على حريتهم يعرفون حقيقة الإسلام ويبينونها للناس بالقول والعمل والأخلاق والآداب ) .