{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} في تخطيطه لتفاصيل وجودها ،وتحديده لعددها ،في ما أراده من خلق السماوات في نظامها الذي يرتكز على أساس الحكمة البالغة{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} في ما تجري عليه من مفردات النظام الكوني ،وما تخضع له من إرادة الله ،لجهة المخلوقات التي تسكنها ،والكواكب التي تحتويها في آفاقها المترامية .
ولعل هذا التعبير بالوحي جارٍ على سبيل الكناية ،في ما يمثله من نزول الأمر وحركته في وعيها الذاتي لوجودها في حركتها الكونية ،تماماً كما هو الوحي الذي يتفاعل في العقل ،ويتحوّل إلى واقعٍ في حياة الناس الملتزمين بإرادة الله المنقادين له .
ويمكن أن يكون المراد بالأمرحسب ما ذكره البعضالأمر الإلهي الذي يتنوع في كل سماء الذي يوحيه الله إلى الملائكة من أهلها في ما ينزلون به من أمر الله حاملين له ،ويعرجون إليه بكتب الأعمال ،أو الأمر التكويني بمعنى الإيجاد ،وهو خلق الأشياء وحدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش وتسلك في تنزيله طرق السماوات ،فتنزّله من سماء إلى سماء حتى تنتهي به إلى الأرض ،فللأمر نسبةٌ إلى كل سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها ،ونسبة إلى كل قبيلٍ من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم وهو وحيه إليهم .
وقد ارتكز هذا المفسِّر الجليل على الآيات الكريمة التي تتحدث عن الأمر المتعلق بوجهٍ بالسماء ،فقد قال الله تعالى:{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [ السجدة:5] .وقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ} [ الطلاق:12] ،وقال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [ المؤمنون:17][ 5] .
وقد نلاحظ على ذلك أن هذا المعنى ليس بهذا الوضوح ،فقد يمكن أن يكون المراد من تنزل الأمر من السماء كناية عن انطلاقه من مراكز العلوّ التي تمثل الهيمنة المطلقة ،مع ملاحظة أن الله ليس في مكان ،ليتصور صدور الأمر منه من منطقة السماء بمعناها المادي ..
وقد نستفيد من مجموع الآيات التي ذكر فيها الأمر ،أن المقصود فيها الإرادة المتعلقة بوجود الأشياء وتدبيرها ،والتي تتنوع في مضمونها ومصداقها بين موردٍ وآخر ،فهناك إرادةٌ تتعلق بالسماء ،وهناك إرادةٌ تتعلق بالأرض ،وإذا كانت الآية متعلقةً بخلق السماوات ،فقد يكون ظهورها في الأمر المتعلق بتدبيرها وتنظيم وجودها ،أكثر من ظهورها في الأمر النازل منها المتعلق بتدبير الأرض ،مما تحمله الملائكة منه ،والله العالم .
{وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وهي الكواكب المتناثرة في الفضاء المطلّة على الأرض ،والتي تبدو للناظر في إشراقها متلآلئة كالقناديل في الجوّ المظلم المدلهمّ ، كما يمنح الأفق زينة ساحرة في هذا المنظر المتشابك في جانب ،المتفرق المتناثر في جانب آخر ،بما يؤلّفه من صور جميلة مثيرة للدهشة والإعجاب .
{وَحِفْظاً} من الشياطين التي تسترق السمع فيتبعها من الكواكب شهاب مبين ،{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في تدبيره وتقديره للنظام الكونيّ الذي أوجده بقدرته ،وأعطاه أسراره التي تحفظ امتداده وتضبط حركته في ما أودعه فيها من العناصر المختزنة لذلك كله ،من خلال علمه بما تحتاجه .