وفي هذه الأثناء: ( فقضاهن سبع سموات في يومين ) ثم: ( وأوحى في كلّ سماء أمرها ) وأخيراً: ( وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ) نعم: ( ذلك تقدير العزيز العليم ) .
في الآيتين المتقدمتين تستلفت النظر عشر ملاحظات سنقف عليها خلال النقاط الآتية ،التي ننهي من خلالها البحث في هذه المجموعة من الآيات ،وهي:
أولا: كلمة «ثم » تأتي عادة للإشارة إلى التأخير في الزمان ،وتأتي أحياناً للدلالة على التأخير في البيان .فإذا كان المعنى الأوّل هو المقصود فسيكون المفهوم هو أنّ خلق السماوات تمّ بعد خلق الأرض وخلق الجبال والمعادن والمواد الغذائية .أما إذا كان المعنى الثّاني هو المقصود ،فليس هناك مانع من أن تكون السماوات قد خلقت وبعدها تمّ خلق الأرض ،ولكن عند البيان ذكرت الآية أوّلا خلق الأرض والأرزاق ومصادرها التي يحتاجها البشر ،ثمّ عرجت إلى ذكر قضية خلق السماء .
المعنى الثّاني بالإضافة إلى أنّه أكثر تناسقاً وانسجاماً مع الاكتشافات العلمية ،فهو أيضاً يتفق مع الآيات القرآنية الأُخرى ،كقوله تعالى في الآيات ( 2733 ) من سورة «النازعات »: ( أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم ) .
إنّ هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أنّ دحو وتوسيع الأرض وتفجر العيون ونبات الأشجار والموارد الغذائية ،قد تمّ جميعاً بعد خلق السماوات .أما لو فسّرنا معنى «ثم » بالتأخير في الزمان ،فعلينا أن نقول: إنّ كلّ تلك قد تكونت قبل خلق السماء ،وهذا يتنافى مع المعنى الواضح للمراد من قوله تعالى: ( بعد ذلك ) أي أن كلّ ما ذكر قد تم خلقه بعد ذلك ( أي بعد السماوات ) .وبذلك نفهم أن ( ثم ) هنا قد استخدمت للتدليل على التأخير البياني{[4004]} .
ثانياً: «استوى » من «استواء » وتعني الاعتدال أو مساواة شيئين ببعضهما ،ولكن ذهب علماء اللغة والتّفسير إلى أنّ هذه الكلمة عندما تتعدّى ب «على » يصبح معناها الاستيلاء والتسلّط على شيء ما مثل ( الرحمن على العرش استوى ){[4005]} .
وعندما تتعدى ب «إلى » فهي تعني القصد ،كما في الآية التي نبحثها ( ثم استوى إلى السماء ) أي قصد إلى السماء .
ثالثاً: جملة «هي دخان » تبيّن أن بداية خلق السماوات كان من سحب الغازات الكثيفة الكثيرة ،وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصلت إليه البحوث العلمية بشأن بداية الخلق والعالم .
والآن فإنّ الكثير من النجوم السماوية هي على شكل سحب مضغوطة من الغازات والدخان .
رابعاً: قوله تعالى: ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً ) لا تعني أن كلاماً قد جرى باللفظ ،وإنّما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني ،وهو عين إرادته في الخلق .أما التعبير ب «طوعاً أو كرهاً » فهو إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية الحتمية قد ارتبطت بتكوّن السماوات والأرض .والمعنى أنّه يجب أن يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت .
خامساً: الجملة في قوله تعالى: ( أتينا طائعين ) تشير إلى أنّ المواد التي تتشكل منها السماء والأرض من ناحية التكوين والخلقة ،كانت مستسلمة تماماً لإرادة الله وأمره ،فتقبلت شكلها المطلوب ولم تعترض أمام هذا الأمر الإلهي مطلقاً .
ومن الواضح أنّ هذا الأمر وهذا الامتثال ليس لهما طبيعة تكليفية وتشريعية ،بل حدثت بمحض التكوين فقط .
سادساً: قوله تعالى: ( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) يشير إلى وجود مرحلتين في خلق السماوات ،كلّ مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين ،وكل مرحلة تتضمن مراحل أخرى ،ومن المحتمل أن تكون هاتان المرحلتان هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة ،ثمّ مرحلة تبديل المواد المذابة إلى مواد جامدة .
كلمة «يوم » استخدمت هناكما أشرنا سابقاًبمعنى مرحلة ،وهو ممّا يشيع استخدامه في عدّة لغات ،ويشيع استخدامه أيضاً في كلامنا اليومي ،فعندما تقول مثلا: يوم لك ويوم عليك ،إنّما تشير إلى مراحل الحياة المختلفة .( هناك بحث مفصل حول هذا الموضوع في نهاية تفسير الآية ( 54 ) من سورة الأعراف ) .
سابعاً: إنّ العدد «سبع » ربّما جاء هنا للكثرة ،بمعنى أنّ هناك سماوات كثيرة وأجرام كثيرة .ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد ،أي إن عدد السماوات هي سبع بالتحديد .ومع هذا التقييد فإنّ جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيّارة هي من السماء الأولى ،وبذلك يكون عالم الخلقة متشكلا من سبع مجموعات كبرى ،واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية ،وإنّ الأجهزة العلمية الفلكية الدقيقة وبحوث الإنسان ،لم تتوصل إلى ما هو أبعد من السماء الأولى .
ولكن كيف تكون العوالم الستة لأخرى ؟وممّ تتشكّل ؟فهو أمر لا يعلمه إلاّ الله تعالى .
والمعتقد هنا أنّ هذا التّفسير هو الأصح .( في هذا الموضوع يمكن مراجعة نهاية تفسير الآية ( 29 ) من سورة البقرة ) .
ثامناً: قوله تعالى: ( وأوحى في كلّ سماء أمرها ) تشير إلى أنّ المسألة لم تنته بخلق السماوات وحسب ،بل إنّ في كل منها مخلوقات وكائنات ونظام خاص وتدبير معين ،بحيث أن كلّ واحدة تعتبر بحد ذاتها دليلا على العظمة والقدرة والعلم .
تاسعاً: قوله تعالى: ( وزينا السماء الدنيا بمصابيح ) تدل على أنّ جميع النجوم زينة للسماء الأولى ،وتبدو في نظر الإنسان كالمصابيح المعلقة في سقف هذه السماء الزرقاء ،وهي ليست للزينة وحسب ،حيث تجذب بتلألؤها الخاص المتعاقب قلوب عشاق أسرار الخلقة ،بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق ،تعينهم على تعيين اتجاه الحركة .
أمّا «الشهب » التي تظهر كنجوم سريعة تظهر في السماء بوميض سريع قبل أن تنطفئ ،فهي في الواقع سهام تستقر في قلوب الشياطين وتحفظ السماء من نفوذهم .( راجع تفسير الآية 17 من سورة الحجر ونهاية الآية السابعة من سورة الصافات ) .
عاشراً: قوله تعالى: ( ذلك تقدير العزيز العليم ) تكملة للجمل التسع السابقة ،وتشكل بمجموعها عشرة كاملة ،تقول: إنّ ما حدث في السماء والأرض منذ بداية الخلق إلى مرحلة التشكّل والنظام الدقيق ،كان وفق برنامج محسوب ومقدّر ،تمّ تنظيمه من قبل المبدأ الأزلي ذي العلم والقدرة المطلقتين ،وإن أي تفكير في أي بحر من هذه البحور يقودنا نحو المبدأ العظيم جلّت قدرته .