{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} من خشية الله والإِحساس بعظمته التي لا يستقيم أمامها شيء ..وقيل: إن المراد تفطرهما من شرك المشركين من أهل الأرض وقولهم:{اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} [ مريم:88] وقد قال الله تعالى فيه:{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [ مريم:90] .
وقيل: إن «الذي يهدي إليه السياقوالكلام مسرود لبيان حقيقة الوحي وغايته وآثارهأن يكون المراد من تفطّر السماوات من فوقهن تفطرها بسبب الوحي النازل من عند الله العلي العظيم ،المارّ بهن سماءً سماءً حتى ينزل على الأرض ،فإنَّ مبدأ الوحي هو الله سبحانه ،والسماوات طرائق إلى الأرض ،قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [ المؤمنون:17] .
والوجه في تقييد{يَتَفَطَّرْنَ} بقوله:{مِن فَوْقِهِنَّ} ظاهر ،فإن الوحي ينزل عليهن من فوقهن ،من عند من له العلوّ المطلق والعظمة المطلقة ،فلو تفطّرن كان ذلك من فوقهن .
على ما فيه من إعظام أمر الوحي وإعلائه ،فإنه كلام العلي العظيم ،فلكونه كلام ذي العظمة المطلقة ،تكاد السموات يتفطرن بنزوله ،ولكونه كلاماً نازلاً من عند ذي العلوّ المطلق يتفطرن من فوقهن لو تفطرن »[ 2] .
ولكننا نلاحظ أن السياق جارٍ في الحديث عن جوانب عظمة الله ،ويوحي بانفعال الكون بتلك العظمة ،فهذه المخلوقات الكونية الضخمة التي توحي بالرفعة والعلو والعظمة لا تملك إلا أن تهتز أمام علوّه وعظمته ،ما يجعل هذا الاحتمال أقرب إلى السياق ،فإن الحديث عن الوحي لم يتحرك في التفاصيل ،بل تحرك من خلال كونه دليلاً على الله وعلى الرابطة التي تربط عباده به ،ولعل الفقرة التالية تؤكد ذلك ،وهي قوله تعالى:{وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ} فإن الحديث عن تسبيح الملائكة بحمد ربهم وتنزيههم إياه عما لا يليق بجلاله وكماله من صفات ،يوحي بأن اتّجاه الحديث هو الله في مواقع عظمته ،فكأن السموات تسبّح الله وتختزن الإحساس بعظمته في تسبيحها حتى تكاد تنفطر من خلال ذلك ..كما أن الملائكة يمارسون هذا التسبيح ،ويطلّون على الأرض ليشاهدوا المخلوقات الحية العاقلة التي قد تخطىء في تصورها لله وتنحرف في طاعتها له ،ولكنها تظل منفتحةً عليه في عمق المعرفة وروحية الإيمان ،فيستغفرون لها ويطلبون من الله أن يغفر لها خطاياها ،ويهيىء لها سبيل الهداية الذي يجعلها سائرةً في خط طاعته ورضاه .
وقد حاول صاحب الميزان أن يفسر سؤالهم الله الغفران لأهل الأرض ،أن يحقق لهم سبب حصول المغفرة ،«وهو سلوك سبيل العبودية بالاهتداء بهداية الله سبحانه ،فسؤالهم المغفرة لهم مرجعه إلى سؤال أن يشرّع لهم ديناً يغفر لمن تديَّن به منهم ،فالمعنى: والملائكة يسألون الله سبحانه أن يشرّع لمن في الأرض من طريق الوحي ديناً يدينون به فيغفر لهم بذلك »[ 3] .
ويستشهدعلى هذا القولبتعلق الاستغفار بمن في الأرض بقوله: «إذ لا معنى لطلب المغفرة منهم لمطلق أهل الأرض حتى لمن قال:{اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [ البقرة:116] وقد حكى الله تعالى عنهم:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ}[ غافر:7] الآية »[ 4]:
ونلاحظ على ذلك ،أن الظاهر من الاستغفار معنى يتصل بالواقع العملي للإنسان بشكل مباشر ،وما أخطأ فيه من التزام أوامر الله ونواهيه ،لتكون المغفرة أساساً لإيجاد الجو الذي يقود الإنسان نحو الهداية ،وذلك بإغلاقها ملف الماضي والابتداء بسلوك جديد ..أما الحديث عن اختصاص الاستغفار بالذين آمنوا ،فهذا أمرٌ يستفاد من دليلٍ آخر ،لا من الآية الكريمة ،ولعل الآية المذكورة في سورة المؤمن تؤكد أن المراد بالاستغفار هو غفران الذنوب التي اقترفها المؤمنون التائبون ،وذلك هو قوله تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْواَجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ*وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ غافر:7 9] .
وربما كانت الآية الأخيرة واضحةً في الدلالة على ما ذكرنا من طلب وقايتهم السيئات التي قاموا بها ثم تابوا منها ،بوقايتهم من نتائجها السلبية في عذاب جهنم ،والله العالم .
الله هو الغفور الرحيم
{أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي يستجيب للتائبين فيغفر لهم ويرحمهم برحمته في نعيم الآخرة ،كما يغفر للمؤمنين الذين عاشوا روح الإيمان ولم يوفقوا للتوبة ،ولكنهم كانوا يعيشون جوهر التوبة في روحيتهم التي لم تبتعد عن الله في العمق وإن ابتعدت عن بعض حدوده في الشكل ،كما نلاحظه في بعض الناس الذين يريدون أن يتوبوا ،ولكنهم يسوِّفون التوبة استعجالاً للأخذ بأسباب الشهوات ،وهكذا كان الحديث عن الله العزيز الحكيم الذي له ملك السماوات والأرض العلي العظيم ،ليتولى الناس الله وحده في حياتهم ،باعتبارهوحدهصاحب الولاية على الكون ،فهو المهيمن على الكون كله ،وعلى الأمر كله ..ولكن هناك بعض الناس الذين لا ينفتحون على ولاية الله في أمورهم ،بل يرتبطون بولاية بعض المخلوقين انشداداً إلى العظمة الطارئة التي يملكها هؤلاء من دون التفات إلى أن كل ما لديهم من الله الذي خلقهم وأعطاهم من نعمه كل ما يستعينون به على امتداد الحياة في وجودهم ..وقد أراد الله للرسول أن لا يتعقَّد من ذلك فيُذهب نفسه حسراتٍ عليهم ،بل يترك أمرهم لله ،لأن الله هو الذي يتولّى شؤونهم ،لأن دور النبيمعهمهو دور الداعية وليس دوره دور الوكيل عن الناس .