قوله تعالى:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} .
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع والكسائي ( تكاد ) بالتاء الفوقية ،لأن السماوات مؤنثة وقرأه نافع والكسائي ( يكاد ) بالياء التحتية لأن تأنيث السماوات غير حقيقي .
وقرأه عامة السبعة غير أبي عمرو ،وشعبة عن عاصم ( يَتَفَطَّرْنَ ) بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعد الياء وفتح الطاء المشددة مضارع .تفطر أي تشقق .
وقرأه أبو عمرو وشعبة عن عاصم ( ينفطرن ) بنون ساكنة بعد الياء وكسر الطاء ،المخففة مضارع انفطرت كقوله:{إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} [ الانفطار: 1] أي انشقت .
وقوله: تكاد مضارع كاد ،التي هي فعل مقاربة ،ومعلوم أنها تعمل في المبتدأ والخبر معنى كونها فعل مقاربة ،أنها تدل على قرب اتصاف المبتدأ والخبر .
وإذاً ،فمعنى الآية أن السماوات قاربت أن تتصف بالتفطر على القراءة الأولى ،والانفطار على القراءة الثانية .
واعلم أن سبب مقاربة السماوات للتفطر ،في هذه الآية الكريمة ،فيه للعلماء وجهان كلاهما يدل له قرآن .
الوجه الأول: أن المعنى تكاد السماوات يتفطرن خوفاً من الله ،وهيبة وإجلالاً ،ويدل لهذا الوجه قوله تعالى قبله{وَهُوَ الْعَلِىُّ العَظِيمُ} لأن علوه وعظمته سبب للسماوات ذلك الخوف والهيبة والإجلال ،حتى كادت تتفطر .
وعلى هذا الوجه فقوله بعده:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} مناسبته لما قبله واضحة .
لأن المعنى: أن السماوات في غاية الخوف منه تعالى والهيبة والإجلال له ،وكذلك سكانها من الملائكة فهم يسبحون بحمد ربهم أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ،مع إثباتهم له كل كمال وجلال ،خوفاً منه وهيبة وإجلالاً ،كما قال تعالى{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [ الرعد: 13] وقال تعالى{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرض مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [ النحل: 49 -50] .
فهم لشدة خوفهم من الله ،وإجلالهم له يسبحون بحمد ربهم ،ويخافون على أهل الأرض ،ولذا يستغفرون لهم خوفاً عليهم من سخط الله ،وعقابه ،ويستأنس لهذا الوجه بقوله تعالى{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السَّمَاوَاتِ والأرض} إلى قوله:{وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [ الأحزاب: 72] لأن الإشفاق الخوف .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} يعني لخصوص الذين آمنوا منهم وتابوا إلى الله واتبعوا سبيله ،كما أوضحه تعالى بقوله:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} [ غافر: 7] .
فقوله:{لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} يوضح المراد من قوله:{لِمَن في الأرض} [ الشورى: 5] .
ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى عنهم إنهم يقولون في استغفارهم للمؤمنين{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ} [ غافر: 7] لأن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم استغفارهم للكفار .
الوجه الثاني: أن المعنى{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض جل وعلا ،من كونه اتخذ ولداً ،سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ،وهذا الوجه جاء موضحاً في سورة مريم ،في قوله تعالى:{وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمان وَلَداً وَمَا ينبغي لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ والأرض إِلاَّ آتِى الرَّحْمَانِ عَبْداً} [ مريم: 88 -93] كما قدمنا إيضاحه .
وغاية ما في هذا الوجه أن آية شورى هذه فيها إجمال في سبب تفطر السماوات ،وقد جاء ذلك موضحاً في آية مريم المذكورة .وكلا الوجهين حق .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} فيه للعلماء أوجه .
قيل: يتفطرن ،أي السماوات من فوقهن أي الأرضين ،ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى .
وقال بعضهم: من فوقهن أي كل سماء تتفطر فوق التي تليها .
وقال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت لم قال:{مِن فَوْقِهِنَّ} [ الشورى: 5] قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات ،وهي العرش والكرسي ،وصفوف الملائكة ،المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ،وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى ،فلذلك قال:{يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} [ الشورى: 5] أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية .
أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذي تحت السماوات ،فكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة .
ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في وجهة الفوق .كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ،دع الجهة التي تحتهن .
ونظيره في المبالغة قوله عز وجل{يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ} [ الحج: 19-20] فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة ا ه .محل الغرض منه .
وهذا إنما يتمشى على القول بأن سبب التفطر المذكور هو افتراؤهم على الله في قولهم{اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً} [ مريم: 88] .
وقد قدمنا آنفاً أنه دلت عليه آية مريم المذكورة وعليه فمناسبة قوله:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} لما قبله أن الكفار وإن قالوا أعظم الكفر وأشنعه ،فإن الملائكة بخلافهم فإنهم يداومون ذكر الله وطاعته .
ويوضح ذلك قوله تعالى:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ} [ فصلت: 38] وقوله تعالى:{فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} [ الأنعام: 89] ،كما قدمنا إيضاحه في آخر سورة فصلت .
قوله تعالى:{أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
أكد جل وعلا في هذه الآية الكريمة ،أنه هو الغفور الرحيم ،وبَين فيها أنه هو وحده المختص بذلك .
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ،قد جاءا موضحين في غير هذا الموضع .
أما اختصاصه هو جل وعلا بغفران الذنوب ،فقد ذكره في قوله تعالى:{وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} [ آل عمران: 135] ،والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله ،وفي الحديث «رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ،ولا يغفر الذنوب إلا أنت » الحديث .وفي حديث سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني » الحديث .وفيه «وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » .
ووجه دلالة هذه الآية على أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب ،هو أن ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله:{أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [ الشورى: 5] يدل على ذلك كما هو معلوم في محله ،وأما الأمر الثاني ،هو توكيده تعالى أنه هو الغفور الرحيم فإنه أكد ذلك هنا بحرف الاستفتاح الذي هو ألا ،وحرف التوكيد الذي هو إن .
وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة ،كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [ الزمر: 53] .وقوله تعالى:{وإني لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ} [ طه: 82] الآية .وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [ النجم: 32] وقوله في الكفار:{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [ الأنفال: 38] .وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة{أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ المائدة: 74] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
فنرجو الله جل وعلا الكريم الرؤوف الغفور الرحيم ،أن يغفر لنا جميع ذنوبنا ويتجاوز عن جميع سيئاتنا ويدخلنا جنته على ما كان منا ،ويغفر لإخواننا المسلمين .إنه غفور رحيم .