{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وهي ليلة القدر التي صرّح القرآن باسمها في قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [ القدر:1] وقد باركها الله بالقرآن الذي انفتح فيه على عباده بالرحمة الرسالية التي تشمل الحياة كلها ،في ما خططه لعباده من مواقع السعادة والسلام ،فالقرآن يحمل مبادىء الرسالة الإسلامية العامة التي تجعل من الحياة حياةً يسودها النظام والاستقرار في كل الخير الذي يفيض ببركته على كلّ جوانب الحياة الإنسانية .
وربما يُستظهر من الآية أن القرآن نزل دفعةً واحدةً في ليلة القدر ،كما أكّدت بعض الأخبار الواردة في التفسير ،ولكن ذلك قد يتنافى مع الآية التي تتحدث عن النزول التدريجي للقرآن في قوله تعالى:{وَقُرآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً} [ الإسراء:106] وفي قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [ الفرقان:32] .
وقد حمله صاحب الميزان على أنه «يمكن أن يحمل على نزول القرآن مرتين ،مرة مجموعاً وجملةً في ليلةٍ واحدةٍ من ليالي شهر رمضان ،ومرةً تدريجاً ونجوماً في مدة ثلاثٍ وعشرين سنةً وهي مدة دعوته( ص ) »[ 1] .
ثم يستدرك الفكرة ليوضح طبيعة نزوله مرتين على أساس الإجمال والتفصيل لا على أساس النزول التفصيلي على دفعتين فيقول:
«لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه أن هذا القرآن المؤلف من السور والآيات بما فيه من السياقات المختلفة المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية لا يقبل النزول دفعةً ،فإن الآيات النازلة في وقائع شخصية ،وحوادث جزئية مرتبطةٍ بأزمنة وأمكنة وأشخاص وأحوال خاصة ،لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة زماناً ومكاناً وغير ذلك ،بحيث لو اجتمعت زماناً ومكاناً وغير ذلك انقلبت عن تلك الموارد وصارت غيرها ،فلا يمكن احتمال نزول القرآن وهو على هيئته وحاله بعينها مرَّةً جملةً ومرّةً نجوماً .
فلو قيل بنزوله مرتين كان من الواجب أن يفرّق بين المرتين بالإِجمال والتفصيل ،فيكون نازلاً مرّةً إجمالاً ،ومرّةً تفصيلاً ،ونعني بهذا الإجمال والتفصيل ما يشير إليه قوله تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [ هود:1] »[ 2] .
وقد نلاحظ على ذلك أن الظاهر من آية الفرقان إقرار القرآن بأنه نزل تدريجاً ،نزولاً واحداً ،لأنه لو كان مسبوقاً بنزولٍ إجماليٍّ لأمكن الرد عليهم بذلك ،كما أن مسألة الإِحكام والتفصيل ،بمعنى الإجمال والتفصيل ،تمثل أسلوباً قرآنياً في إعطاء الأفكار ،وذلك من أجل الانفتاح على الخطوط العامة للفكر القرآني وعلى مفرداتها التفصيلية ،ولكن ذلك يتم في نزول واحدٍ ،مع أننا لا ندرك الفائدة من وراء ذلك .فإذا كان المقصود أن يعيه النبي أوّلاً في شخصيته الذاتية قبل تبليغه في حركته الرسالية ثانياً ،فإن الظاهر من تثبيت فؤاده بالطريقة التدريجية أن الوعي النبوي للقرآن كان يتحرك بطريقةٍ تدريجية ،وعلى ضوء ذلك فقد يكون الأقرب إلى الاعتبار أن يكون المقصود من نزول القرآن في ليلة القدر ابتداء نزوله ،ولا سيّما إذا عرفنا أن القرآن يطلق على الآية والسورة والمجموع ..مع ملاحظة أن الآية التي تتحدث عن نزوله في ليلة القدر أو في ليلة مباركة هي من آيات القرآن ،فكيف تكون ناظرةً إلى المجموع ..وعلى كل حال ،فإن طبيعة التعبير القرآني لا يأبى ذلك ،والله العالم .
{إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} في ما أنزلناه من الوحي الذي حمله الأنبياء من قبلك ،كما تحملهأنتفي القرآن ،ليبلّغوه كما تبلّغه للناس ولينذروا بعذاب الله الذي يمثل النتيجة الحاسمة لأعمالهم المنحرفة عن الخط المستقيم .