{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ} فالنار تتطلب مزيداً من الوقود البشري ممن عاشوا في ذهنيةٍ حطبيةٍ ،فلم تكن لهم إرادةٌ مستقلةٌ تنفتح على الله في وعي إيماني ،بل كانوا مجرد أتباع هامشيين للمستكبرين وللمضلِّلين ،الذين يدعونهم إلى الكفر بالله ،والإشراك به ،والسير على خط الانحراف في العقيدة والسلوك ،ما جعلهم طعماً للنار{الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ( البقرة:24 ) .
وقد ذكر بعض المفسّرين ،أن الواقع يفرض أن تعرض النار على الكفار ،لأن الذي يملك العقل والإحساس هو الذي تُعرض عليه الأشياء الجامدة غير الحيّة لينفعل بها ،ولكننا نلاحظ على ذلك أن التعبير هنا كنائي وليس واقعياً ،إذ يصوّر النار مخلوقاً حيّاً يجوع ويشبع ،ويتطلّب الغذاء الذي يحتاجه ،كما ورد في قوله تعالى:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ( ق:30 ) ،وهو أسلوبٌ هدفه التحقير من شأن هؤلاء المستكبرين الذين كان الناس في الدنيا يُعرضون عليهم ليذلّوهم أو ليسجنوهم أو ليقتلوهم ،في موقف الاستضعاف الطاغي لإنسانيتهم .
النار مأوى العابثين المستكبرين
وهكذا يقف هؤلاء أمام النار ،قبل أن يأتي الأمر الإلهي بإدخالهم إليها ،ليروي الملائكة لهم تاريخهم اللاَّهي العابث المستهتر المستكبر على الله والناس ،الذي تحوّل إلى هذا المستقبل الحقير المهين ،وليتعرّف الناس ،من خلال هذه الصورة المرعبة ،كيفية تفادي الدخول في ما يؤدي إلى ذلك المصير .
{أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} واستنفدتموها بعد أن أسرفتم فيها ،في معصية الله ،{وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} فقد كان يخيّل إليكم أن الأخذ بمتع الحياة الدنيا هو المحدد لقيمة الإنسان ،فالمحروم منها لا يملك مستوى الإنسانية في مفهومكم ،والآخذ بها هو شخص ذو قيمة في مجتمعكم .{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} الذي تعيشون فيه عذاب الإحساس بالمهانة والحقارة والسقوط ،كما تعيشون فيه عذاب النار التي تحرق أجسادكم{بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ} بكل ما يمثله الاستكبار من إذلالٍ للناس المستضعفين ،وبغي عليهم ،ومصادرةٍ لحقوقهم وأموالهم ،واستغلالٍ لطاقاتهم دون حقٍ ،وانحرافٍ بهم نحو الباطل في العقيدة والسلوك ،مما لا تملكون الحق فيه من أيّة جهةٍ كانت ،لأنكم لا تختزنون في داخلكم القوّة الذاتية الكبيرة ،التي تمنحكم الكبرياء الأصيلة ،كما أن الله لم يجعل لكم ذلك ،فلم يسلّطكم على عباده ،ولم يرفع طبقتكم على الناس الآخرين ،بل لم يسلطكم على أنفسكم ،وما تملكون من متاع الحياة الدنيا إلا بحدود ما حدَّده لكم في أحكام شريعته .
{وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} في أوضاعكم المعربدة المستهترة ،وفي تصرفاتكم الظالمة الباغية ،وفي علاقاتكم المفتوحة على مواقع الخلاعة والمجون ،فهذا هو الجزاء العادل لما عشتموه من استكبار وفسق في الحياة ،حيث تنعكس صورة الأشياء في الآخرة ،وتعيشون واقع المهانة والحقارة بكل ألوان الألم والإذلال .