/م17
التفسير:
20-{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} .
من شأن القرآن أن يستعرض مشاهد القيامة ،فإذا الغائب حاضر ،وإذ بك ترى رأي العين هؤلاء الكفار الذين أسرفوا على أنفسهم في المعاصي ،ولم يستجيبوا لداعي الإيمان ،فيقال لهم:
{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها ...}
لقد أفنيتم حياتكم مستمتعين باللذائذ والمحرمات ،معرضين عن هدى السماء ،كافرين بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر .
{فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} .
في هذا اليوم ،يوم القيامة ،يوم الحساب والجزاء ،تجازون على كفركم وإسرافكم في المعاصي ،بعذاب الهوان والمذلة في جهنم ،بسبب استكباركم وعتوكم وظلمكم وعدم إيمانكم ،وبسبب فسوقكم وخروجكم على طاعة الله وهديه .
وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن كثير من طلبات المآكل والمشارب وتنزه عنها ،وقال: لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ،ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة ،وإني أخاف أن أكون من الذين قال الله فيهم:{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ...}
وعند التأمل نجد أن الإسلام دين وسط ،لا يحرم الطيبات ،فالله تعالى يقول:{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ...} ( الأعراف: 32 ) .
والنبي صلى الله عليه وسلم -وهو القدوة العملية- كان يأكل ما يجده ،يشبع إذا وجد ،ويصبر إذا عدم ،ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ،ويشرب العسل إذا اتفق له ،ويأكل اللحم إذا تيسر ،ولا يعتمد أصلا ولا يجعله ديدنا ،ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة ،وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم منقولة .
وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر ،والاستعانة بالطيبات على الشهوات والمحرمات .
وجاء في التسهيل لعلوم التنزيل:
هذه الآية في الكفار بدليل قوله تعالى:{ويوم يعرض الذين كفروا ...}
وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين ،ولذلك قال عمر لجابر بن عبد الله -وقد رآه اشترى لحما-: أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه !أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ،ممن قال الله فيهم:{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ...}
من تفسير الفخر الرازي
وهذه الآية لا تدل على المنع من التنعم ،لأن هذه الآية وردت في حق الكافر ،وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ،ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والإيمان به ،وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ،ودليله:{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ...} ( الأعراف: 32 ) .
نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى ،وعليه يحمل قوله عمر: لو شئت لكنت أطيبكم طعاما ،وأحسنكم لباسا ،ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة .
وأرى أن دين الله يتسع للتمتع بالطيبات ،ويتسع للزهد فيها وتغليب جانب الآخرة ،ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ،فمن استمتع بالطيبات وأدى حق الله وأطعم الجائع وساعد المحتاج ،فهو ناج إن شاء الله ،ومن زهد في الطيبات -بدون أن يحرمها على غيره- فله نيته واجتهاده وصبره ،واقتداؤه بالزاهدين من السلف الصالح .
وأخيرا ..أرى أن خير الأمور الوسط ،وشر الأمور الشطط ،والرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا ،وكان ينال من طيبات الدنيا وزينتها وطيبها ،ويتزوج من نسائها ،ويستمتع بالنعمة عند وجودها .
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه البخاري: ( إن أتقاكم لله أنا ،وإن أعلمكم بالله أنا ،وإن أخوفكم من الله أنا ،ومع ذلك فأنا أصوم وأفطر ،وأصلي وأرقد ،وأتزوج النساء ،فمن رغب عن سنتي فليس مني )21 .
وكان صلى الله عليه وسلم قدوة أيضا في الصبر والتجلد والزهد ،ليظل المؤمن شديد المراس ،لا يلين ولا يخنع ،ولا يرغب في الطيبات إلا إذا كانت من حلال ،وفي قدرته وفي متوسط دخله ،ولا يتطلع إلى الشبهات ولا إلى الكماليات ،إذا كان دخله حلالا لا يتسع لذلك .
قال صلى الله عليه وسلم: ( استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك )22 .
وقال صلى الله عليه وسلم: ( البر ما اطمأنت إليه النفس ،والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس )23 .
وقال صلى الله عليه وسلم: ( الحلال بين ،والحرام بين ،وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ،فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ،ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ،كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ..)24 .