مناسبة النزول
جاء في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي بإسناده عن ابن عباس قال: «أتى رسول الله( ص ) ابن أبيّ ،وبحريّ بن عمرو ،وشاس بن عديّ ،فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ،فقالوا: ما تخوّفنا يا محمَّد ،نحن والله أبناء الله وأحباؤه ،كقول النصارى ،فأنزل الله فيهم:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} » .
زعم اليهود والنصارى أنهم أحباء الله
يزعم اليهود والنَّصارى أنَّهم أولياء الله وأحباؤه ،وأنَّهم شعب الله المختار ،وأنَّهم أقرب النَّاس إليه من دون غيرهم ،وأنَّ الآخرة لهم وحدهم .
ويثير القرآن هذه النقطة المتأصِّلة في تفكيرهم ،واضعاً إياها على طاولة النقاش الهادىء ،فيطالبهم أولاً بالبرهان على صدق دعواهم هذه ،ويؤكد ثانياً على المقياس الَّذي جعله الله أساساً للقرب والبعد عنه ،وبالتالي لغضبه ورضاه ،وذلك بالعمل بأوامره وترك نواهيه ،من دون فرق بين اليهود والنَّصارى وغيرهم ،فليس لله أيّة علاقةٍ خاصةٍ بأيّ أحدٍ من خلقه ،بل النَّاس كلهم عبيد له لا يفضِّل إنساناً على إنسان إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح ،مهما كانت درجته أو كان نسبه .
وقد جاءت هذه الآية لتشجب فكرتهم من خلال التساؤل عن السبب في عذاب الله لهم بما اقترفوه من ذنوب إذا كانوا من أحبائه وأوليائه ،إذ إنَّ الله لا يعذّب من كانت له هذه الدرجة عنده .ثُمَّ يطرح الفكرة الحاسمة الّتي تجعل النَّاس سواسية أمامه في الطاعة والمعصية ،وفي العقاب والثواب ،فله السلطة المطلقة في المغفرة لمن يشاء ،والعذاب لمن يريد ،من دون أن يعطي امتيازاً لأي إنسان خارج نطاق إرادته وحكمته .ويقرّب المحسن إليه ،فلا وليّ ولا نصير من دون الله لأي أحد ،مهما كانت صفته أو قيمته ،مسيحيّاً كان أو يهودياً أو مسلماً ،تلك هي الحقيقة ،وما عداها كله أحلامٌ لا أساس لها من الواقع ،ولا قرابة لها بالحق .
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فإذا لم نكن أبناءه بالجسد لأنَّ الله لم يلدنا كما يلد الأب أولاده ،فإنَّنا أبناؤه بالمعنى الروحي الَّذي يجعلنا أقرب إليه من غيرنا ،كما هو حال الأبناء بالنسبة إلى أبيهم ،فإنَّه يعاملهم بما لا يُعامل به الآخرين في رعايته لهم ،وعطفه عليهم ،وانفتاحهم عليه ،فيتقبَّل منهم ما لا يتقبله من غيرهم في أوضاعهم السلبية معه ،ويمنحهم ما لا يمنحه لغيرهم في مبادراته الإيجابيّة ،ولا يهملهم ،في بعض الظروف الّتي تدفع إلى الإهمال ،بما يهمل به غيرهم .ونحن أحباؤه الَّذين لنا عنده منزلة خاصة من المحبة مما لا يملكه أحد غيرنا من خلقه ،ولذلك فإنَّنا لا نخاف من عذابه ،ولا نخشى نقمته ،لأنَّ الأب لا يعذب أبناءه ،والمحبّ لا ينتقم من أحبائه ،فلنا الحريّة في ما نفعل أو نترك في الدنيا لأنَّنا فوق القانون ،فلا نتعرض لما يتعرض له المخالفون له .
الله يدحض دعواهم الباطلة
{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} فالله قد قضى بعذاب الَّذين ينحرفون عن خطِّه المستقيم ،ويحرفون الكلم عن مواضعه ،ويتمردون على رسله ،ويعصون أوامره ونواهيه ،ويقتلون الأنبياء بغير حقٍّ ،أيّاً كان الانتماء الاسميّ لأمثال هؤلاء ،كما قال تعالى في آية أخرى:{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [ النساء:123] .وهذا هو الخط الإلهي في علاقته بعباده ،فلا قرابة بينه وبين أحدٍ منهم ،إذ لا تُنال الكرامة عنده إلاَّ بالتقوى{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [ الحجرات:13] .ولا فرق في قضاء الله بالعذاب بين الدنيا والآخرة ،وقد عذَّب الله بعض أهل الكتابوهم اليهودبمختلف ألوان العذاب في أكثر من مرحلةٍ من مراحل تاريخهم ،فقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة ،وخضعوا لأكثر من سلطةٍ ظالمة ،وقاموا بقتل أنفسهم وتخريب بلادهم بأيديهم ،وهكذا عاش النَّصارى في أكثر من مشكلةٍ داخليّة أو خارجيّةٍ من البلاء المتنوّع في حياتهم العامّة والخاصة .
وإذا كان مثل هذا البلاء أمراً طبيعيّاً ناشئاً من التعقيدات المتجسدة في الواقع الَّذي عاشوه ،ومن الظروف الموضوعيّة المحيطة بهم ،فإنَّ العذاب الدنيوي لا ينفصل عن أسبابه الطبيعيّة ،لأنَّ الله ينزل عذابه ليذيقهم بعض الَّذي عملوه بحسب السُّنة الإلهيّة ،في علاقة المسببات بأسبابها ،الأمر الَّذي يجعل من البلاء في بعض الحياة عذاباً إلهيّاً من خلال ما يقدره الله من ذلك ،عندما يترك للأسباب أن تنفتح على مسبباتها من دون أن يتدخلبشكل غير عاديلرفع ذلك عنهم بما يرحم به بعض عباده في أسباب غير عاديّة .
وهكذا تتأكد الآية من خلال إقرارهم بأنَّهم معرّضون لعذاب الله ،كما ينقل عن اليهود بأنَّهم يعذبون أربعين يوماً عدد الأيام الّتي عبدوا فيها العجل .
وعلى ضوء ذلك ،فإنَّ الحجَّة الإلهيّة تردُّ عليهم بأنَّ دعواهم لو كانت صادقة ،فكيف يؤاخذهم الله بما يؤاخذ به بقيّة النَّاس في العذاب الَّذي ينزل بهم بسبب أفعالهم السيئة ؟!{بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} فلا ميزة لكم على أيّ إنسانٍ آخر من خلق الله من ناحيةٍ ذاتيّةٍ أو من امتيازاتٍ إلهية ،{يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} بحسب استحقاقه له ،ولله الأمر في ذلك كله من قبل ومن بعد ،ولا أمر لغيره ،{وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بكل ما تشتمل عليه من موجودات ومخلوقات ،فليس لأحدٍ عليه حقٌّ في ذاته ،ولا يملك أحد معه شيئاً ،وليس هناك أيّة علاقةٍ ذاتيّة بينه وبين أحد من خلقه ،ليكون هذا ابناً أو حبيباً من خلال طبيعته الشخصيّة أو العائليّة أو الفئويّة ..{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فهو الَّذي يحدد للنَّاس مصيرهم في الجنَّة أو النَّار على أساس ما يحاسبهم به ،وهو الَّذي يتصرّف في أمورهم بما يشاء ،وهو الَّذي يملك كل مصيرهم .