{لاَّ مُبَدِّلِ}: التبديل: وضع الشيء مكان غيره .
{صِدْقاً}: الصدق: الخبر الذي مخبره على وفق ما أخبر به .
{وَعَدْلاً}: العدل: ضد الجور ،وقيل: إن أفعال الله تعالى كلها عدل لأنهاكلهاعلى الاستقامة ،وقيل: إنما يوصف بذلك في ما يعامل به عباده .
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} ما هي كلمة الله ؟فقد تحدث القرآن عن الكلمة بأكثر من أسلوب ،حتى أنه أطلقها على عيسى( ع ) .الظاهر أن المراد بها ،هنا ،الإسلام الذي أنزله الله على الرسول مفصّلاً ،ولم يفرّط في الكتاب من شيء ،في ما يحتاجه الناس في أمورهم الخاصة والعامة ،{صِدْقاً} ،في ما يمثله من الحقيقة التي لا يقترب إليها الباطل ،فهي الصورة الحية التي تتطابق مع خط الحق ،فلا شيء إلا الصدق ،الصدق في الكلمة ،وفي الجوّ ،وفي الموقف ،وفي حركة الحياة ،وفي ما يريد أن يبنيه من شخصية الإنسان الذي يصنعه على أساس الصدق ،في نطاق الفرد والمجتمع ،في المشاعر والكلمات والمواقف ،في الصدق مع النفس ،ومع الله ،ومع الناس ،ومع الحياة ،وبذلك يكون الإنسان الذي يجسّد الصدق في كل حياته كلمة الله ،لأن الله هو الحق ،فكل ما يمثِّل الحق هو كلمته وإرادته ،ويكون التشريع والفكر والجوّ الذي ينسجم مع خط الصدق كلمة الله ،لأن الله هو الحق .وهكذا تمت كلمة ربك صدقاً لأن الصدق يحيط بها من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها ،وفي عمقها وامتدادها .
{وَعَدْلاً} في ما تمثله من التوازن بين خط الدنيا وخط الآخرة ،وبين جانب المادة وجانب الروح ،ومن التوازن بين شخصية الملاك وشخصية البشر في الإنسان ،وفي الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية له ،وفي المصلحة العامة والمصلحة الخاصة ،وهكذا يتحرّك في حقوق الناس في ما يختلفون فيه ويتفقون عليه ،في حياتهم الداخلية والخارجية ،حتى يشمل التوازن ..وهكذا رأينا القرآن في أكثر من آية يؤكد على العدل في الكلمة والشهادة والحكم والمعاملة وفي الحياة الزوجية ،وفي الصلح بين الناس ،وفي الحرب والسلم وفي كل شيء ،حتى اعتبر القيام بالقسطأي العدلهدف كل الرسالات وكل الرسل .
{لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} إن التبديل إنما يعرض للأشياء التي تخضع للحدود الزمنية أو المكانية أو تنطلق من الظروف المحدودة أو الخبرة القصيرة النظر ،وتلك هي صفة القرارات والكلمات الصادرة عن الإنسان ،الذي لا يملك النظرة المطلقة البعيدة المدى ،التي لا تتجمد في الحدود الضيّقة ،أمّا الأشياء التي تتحرك من قلب الحقيقة ،في ما تنطلق فيه المصلحة الممتدة المطلقة للإنسان ،بعيداً عن كل خصوصياته الزمانية والمكانية والعرقية والشخصية ،فإنها لا يمكن أن تتبدل أو تتغيّر لأنها تمثل الحق الثابت الذي لا مجال فيه للاهتزاز وللتحوّل ،وتلك هي صفة كلمات الله التامّة التي أراد الله للحياة وللإنسان أن يسيرا عليها من خلال المصلحة الثابتة الممتدة الدائمة ما بقي للحياة حركة ،وما بقي للإنسان وجود .
{وَهُوَ السَّمِيعُ} الذي يسمع كل شيء ،حتى السر وأخفى ،ويسمع وساوس الصدور ،ولا يصمّ سمعه صوت{الْعَلِيمُ} الذي يعلم مفاتيح الغيب ، َ{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [ الأنعام:59] ويعلم ما يفسد الناس وما يصلحهم ،وما ينفعهم وما يضرّهم ،فإذا كان الله سميعاً عليماً ،فإنه يركز كلماته ،كل كلماته ،على أساس علمه بواقع الأشياء وبمصلحة عباده من جميع الجهات ،فأين يكون موقع التغيير والتبديل من هذا كله ؟
موقفنا من الدعوة إلى تطوير الإسلام
ومن خلال هذه الآية الكريمة ،نعرف كيف يكون موقفنا من الدعوات التي تتحدث عن تطوير الإسلام وتبديله وتغييره ،على حسب التطور في الفكر والعلم وأساليب الحياة وطبيعة العلاقات الإنسانية ،فقد كان الإسلام وليد مرحلةٍ زمنيةٍ معينةٍ ،تختلف حاجاتها عن حاجاتنا ،وطريقة التفكير فيها عن طريقتنا ،وكان التشريع فيها خاضعاً لتلك الحاجات ،وكانت أساليب التفكير لديه منطلقةً من تلك الطريقة ،فلا بد لنا من أن ننفض عنه غبار السنين ونأخذ أهدافه ونطوّر وسائله ونستوحيه في ما نتحرك فيه ولا نتجمد أمام حروفه ،فقد تحوّل الإسلام عندنا من فكرٍ تفصيليّ إلى فكر عامٍ ،ومن شريعةٍ شاملةٍ إلى شريعة موحية .وهكذا يشعر الإنسان بأن الدين ليس قيداً يقيّد خطواته في طريق التقدم ،بل هو حركةٌ منطلقةٌ شاملة توحي له بأن يأخذ حريته في نطاق الوحي ،الذي لا تزيد مهمته عن الإيحاء ولا تفرض عليه شيئاً غير ذلك .
هكذا يقولون ،وهو كلام جميل يداعب أحلام الحرّية في الإنسان ،ولكن الحقيقة أجمل وأوثق ،وهي أن الإسلام ليس حكايةً من حكايات التاريخ ،ليقف في موقعه محدداً لنا نقطة الانطلاق ،ثم يغيب في الضباب ،ولكنه وحي الله ،هكذا يعتقد المسلمون الذين يؤمنون بالإسلام ،الدين ،الوحي ،القرآن ،النبوّة ،اليوم الآخر ،التي تتحرك من خلال إرادة الله .وهو الدين الذي لم يفسح المجال لدين بعده ،ولم يترك لنبي ،غير محمد( ص ) مجالاً ليحمل الرسالة ويركّز الشريعة ،وإذا كان الإسلام هو وحي الله الأخير بكلماته وأحكامه ومفاهيمه التي لا تتبدل ،فهل يكون التبديل إلا تمرّداً على ذلك كله ،وهروباً من حركة الوحي في حياة الإنسان ؟!
ثم ما معنى خضوع الإسلام لحركة التطوّر ؟هل معناه أن يخضع الإسلام للأفكار التي فرضت نفسها على واقع الحياة من خلال القوّة ،أو من خلال ظروفٍ معيّنةٍ ضاغطة ؟وكيف نلزم فكراً ما بأن يتغير لمصلحة فكرٍ آخر بعيداً عن قناعاته ؟
إن القضية المطروحة في الساحة هي أن يتطور الإسلام على هدى الأفكار الآخرى التي يعيش معها حركة الصراع في المفاهيم ،وفي التشريع ،وفي أساليب العمل ،ونحن نعرف أن ذلك غير واقعيّ ،لأنه يمثل الهزيمة أمامها ،لا الانسجام معها .إن معنى انطلاقة الإسلام مع الحياة هو أنه يستجيب لحاجاتها ،فيضع لها التشريعات التي تمتد مع هذه الحاجات وتحتويها ،ويلتقي مع مشاكلها ،فيضع لها الحلول ،على حسب مفاهيمه التي يراها صالحة لكل زمانٍ ومكانٍ ..
وهل يمكن أن يضع الإسلام الفكرة ويترك التفاصيل المرتبطة بها تحت رحمة الأهواء والأفكار التي لا تلتقي معه في الجذور وفي التطلعات ،ما يجعل من تلك الجزئيات صورةً مشوّهة عن المعاني الكلية ،ومن تلك التفاصيل انحرافاً عن الخط الذي تنطلق فيه المعاني الكلية ،لأنها تعيش في أجواء مختلفةٍ عن أجواء هذه المعاني ؟!
إنّ الإسلام هو الذي يطوّر الحياة ويغيّرها ويحرّكها في اتجاه الخطوات والأهداف التي ترفع من مستواها ومستوى الإنسان فيها ،فهو الذي يستجيب لحاجات التطور في ما يخطط من مناهج وأساليب للتفكير ،ويدفع بالعلم خطواتٍ واسعةً إلى الأمام ،ويهيب بالإنسان أن يندفع نحوه ويتعامل معه من موقع الحاجة الباحثة عن أسرار الكون الذي سخره الله له ،ليعرف من خلال ذلك ربّه ونفسه وحركة حياته كلها .وبذلك فإننا لا نتنكر لكل خطوات العلم في تغيير الحياة ،بل كل ما عندنا هو التحفّظ على التطور الذي يأتي من خلال سيطرة فكرٍ معيّنٍ أو اتجاهٍ معين يفرض نفسه على الواقع ،لتخضع له كل الأفكار وتتضاءل أمامه ،وتبدّل أوضاعها ومفاهيمها تبعاً له .
إن الإسلام فكرٌ كما هو الفكر ،ولكنه الفكر الناشىء من الوحي ،ولا يمكن للفكر أن يتطوّر إلا من خلال التنكّر لقواعده وجذوره .وهذا يعني أن يبتعد الإنسان عن الفكرة التي تقول إن الله هو مصدر الحقيقة في كل شيء ،فلا يمكن للفكر الآتي من وحيه أن يكون فكراً محدوداً أو خاطئاً أو مهزوماً أمام أيّ فكرٍ آخر في أيّة مرحلة من مراحل الزمن .ولو كانت فكرة المرحلية واردةً في الحساب ،لبيّنها الله لنا في كتابه ،أو على لسان نبيّه ،كما فعل ذلك في ما أوحى به من نسخ بعض الأحكام التي أنزلها الله ،في نطاق المرحلة ،لا في نطاق الحياة كلها .
دور الاجتهاد في فكرة تطوّر الإسلام
وقد يطرح بعض الناس حكاية الاجتهاد الذي فتح الإسلام كل أبوابه على مدى الزمن ولم يغلقه على نفسه ،فهو الباب الذي يمكن أن ينفذ منه التبديل والتغيير والتطوير .
وبذلك يمكن أن يتطوّر الإسلام من داخل الخطّ الذي يسير عليه ويؤمن به ،ولكن ما معنى الاجتهاد ؟إنه لا يعني الرأي الذي ينطلق من ثقافة الإنسان ومزاجه الخاص في ما يرتأيه من مصالح ومفاسد للحياة ،ولا يعني التشريع المستقلّ الذي يتحرّك من التجارب المحدودة التي تفرض لهذه المرحلة تشريعاً يمكن أن نتجاوزه إلى تشريعٍ آخر في مرحلة أخرى ،تماماً كما يفعل المشرّعون الذي يضعون القوانين في المجالس النيابية ،في الدول الحاضرة القائمة على أساس أن التشريع للأمة من خلال ممثِّليها ،بل إنه يعني الرأي المستمدَّ من القواعد الشرعية في فهم النصوص الدينيّة في الكتاب والسنّة ،في ما يفهمه المجتهد منها ،وفي ما يستوحيه مما ينسجم مع أجواء النص وإيحاءاته .فلا يمكن له أن يعطي رأياً في مقابل النص ،أو يضع حكماً لم يرد به نص ،ولم تفرضه قاعدةٌ فقهيةٌ مستمدة من الكتاب والسنّة ،حتى العقل الذي اعتبره بعض المجتهدين دليلاً من أدلّة الأحكام ،لا بد له من أن يتحرك في نطاق الأفكار القطعية التي لا يقترب إليها الشك في ما يستفيده من ملاكات الأحكام ،فلا مكان للحكم العقلي الظني في ذلك من قريبٍ أو بعيدٍ .
إنّ الاجتهاد الإسلامي هو اجتهادٌ في فهم الإسلام ،وليس اجتهاداً ذاتياً يستمد أفكاره من حركة الواقع ،ولا مانع من أن يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغيّر الاجتهاد ،ولكنّ تغيّر الاجتهاد لا يخضع للتغييرات الحاصلة من الخارج بل من خلال اكتشاف خطأٍ في الاجتهاد السابق أو خللٍ في فهم النصّ أو في تطبيقه ،أو في قاعدةٍ شرعيّة لا يكون لها مجالٌ في هذا المورد أو ذاك ،لأن قاعدةً شرعيةً أخرى هي الأولى في هذا الموضع أو ذاك .
وعلى ضوء ذلك ،يبقى الاجتهاد متحركاً ،في نطاق حدودٍ علميةٍ معيّنةٍ تحفظه عن الانحراف ،وتصونه عن الزلل ،وتحركه في اتجاه الاكتشاف الأمين للحكم الشرعي الذي أنزله الله في كتابه ،أو أوحى به إلى نبيّه ،فلا مجال لتطوير الإسلام من خلال الاجتهاد ،بل كل ما هناك ،أن نجتهد في دراسة مدى انسجام خطوات التطور مع خط الإسلام في التشريع ،أو ابتعادها عنه ،لنحدد موقفنا من ذلك ،لأن حكم الله هو القاعدة للحياة ،وليست القضية بالعكس .