{أَكْثَرَ}: جاء في المجمع: الفرق بين الأكثر والأعظم أن الأعظم قد يوصف به واحد ولا يوصف بالأكثر واحد بحال ،ولهذا يقال في صفة الله تعالى: عظيم وأعظم ولا يوصف بأكثر ،وإنما يقال: أكبر ،بمعنى أعظم .
{يَخْرُصُونَ}: يكذبون في ما يقولون ظنّاً وتخميناً من دون علم ولا يقين .وأصل الخرص: الحزر والتخمين ،والخرص على الكذب .قال الراغب: وحقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظنّ وتخمين يقال: خَرْص ،سواء كان مطابقاً للشيء أو مخالفاً ،من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع ،بل اعتمد فيه على الظنّ والتخمين
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} هناك اتجاه يقول: إن الأكثرية تمثل الحقيقة ،أو الفكر الأقرب إليها ،وبذلك اعتُبرت أساساً للتنظيم في جميع المؤسسات التي تحتاج إلى وضع القوانين وإصدار القرارات عندما يختلف الأعضاء بين رأيٍ موافق ورأيٍ مخالف ،فيكون رأي الأكثرية ،ولو بزيادة واحد ،هو الخطّ الفاصل بين الحق والباطل ،سواءٌ في ذلك على مستوى الجمعيات أو الأحزاب أو الشركات أو الحكومات ،أو على مستوى الأمة كلها ،والاتجاه الديمقراطي يرتكز على هذه القاعدة .
ولكن القرآن لا يوافق على هذا الاتجاه ،بل يعملبدلاً من ذلكعلى الإيحاء للإنسان بأن الحقيقة هي في الجانب المقابل ،أي عند الأقليّة ،ولذلك كثرت الأحاديث في الآيات الكريمة عن ذلك:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} [ هود:17] ،أو{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [ الأعراف:187] ،أو{وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [ التوبة:8] لأن الأكثريةعادةتمثل التيار الذي يحكم الحياة من جانبها السهل الذي يقف مع الرغبات الحسية وغير الحسية التي تنادي بها النفس الأمّارة بالسوء ،أمَّا الأقليّة ،فهم الذين يتعاملون مع الحياة من موقع المسؤولية الصعبة ،ويمثلون الطليعة في كل مجتمع ،ولهذا كانوا هم أتباع الدعوات الرسالية والثوريّة والإصلاحية ،الذين حملوا الأعباء الكبيرة ،وتحمّلوا الجهد العظيم ،وعاشوا في مواكب الشهادة ،بينما كانت الأكثرية في الجانب المقابل من الرسالة والثورة والإصلاح ،تحارب الأنبياء والثائرين والمصلحين بمختلف ألوان الحرب ،وتبعثر خطواتهم على أكثر من صعيد ،حتى إذا تقدمت الرسالة والثورة والإصلاح وانتصرت ،انطلقت الأكثرية لتسير مع الأجواء الجديدة ،لتعمل على احتوائها وتوظيفها لمصلحتها ،ولتسلك أساليب اللف والدوران وفنون الخداع والنفاق ،ولتعودمن جديدلتحارب الرسل والثائرين والمصلحين ،من موقعٍ آخر ،وبوسائل أخرى ..وهكذا تستمرّ الحياة في صراع الأكثرية السائرة مع التيار ،مع الأقليّة المتحركة ضده .
إن القرآن لا يعتبر الكثرة العددية أساساً للنتائج الإيجابية على مستوى الحقيقة ،لأن للحقيقة أساساً ينطلق من الوحي الإلهي من جهة ،ومن الفكر الهادىء الموضوعي العميق من جهةٍ أخرى ،ولن يكون للأرقام الكثيرة أيّ تأثير في هذا المجال ،لأنها لا تستطيع أن تتقدم خطوةً واحدةً إلى الأمام ،ما لم تنطلق من موقع فكرٍ ينضمّ إلى فكر ،لتكون القضية قضيّة شورى يتداول فيها الناس الأفكار في جولة فكريّة تتحرك في خطّ الحوار ،لتقدمفي نهاية المطافالرأي الأفضل ،الذي لا يفرض نفسه على القيادة ،بل يمنحها فرصة الاقتراب من الخط السليم ،ولترى رأيها النهائي حول الموضوع سلباً أو إيجاباً .
إن الأرقام التي تتكاثر تبعاً لتكاثر الأطماع والشهوات والانفعالات ،لا يمكن أن تمثّل حركة الإنسان نحو الحقيقة ،لأنها تتعامل مع العاطفة التي تثير أمامه ضباباً كثيفاً يحجب عنه وضوح الرؤية للأشياء ،ويبعده عن معرفة الساحة الحقيقية للشخص وللموقف وللمبادىء ،إلا من خلال ما يريده أولئك الذين يحركون الأطماع والشهوات والانفعالات في لعبة الباطل المتعددة الأساليب والأشكال والألوان .
وفي ضوء ذلك ،لا بدّ من التمييز بين الأكثرية الواعية المفكّرة المخلصة ،والأكثرية الساذجة المنفعلة المزيّفة ،ولا بد لنافي نطاق ذلكمن تحديد المسألة التي تعيش فيها الأكثرية روح الشورى من أجل الوصول إلى الحقيقة ،في مقابل الأكثرية التي تعيش روح التنافس والصراع من أجل الحصول على موقعٍ ما بعيداً عن قضية الحق والباطل في ساحة الصراع .
إن الإسلام يحدّد الدور القيادي الذي يعطي للحكم شرعيته ،وللرأي لون الحقيقة ،فقد تجد القيادة في الأكثرية سبيلاً إلى تحديد المصلحة في قضايا الناس الحياتية من سياسةٍ واجتماع واقتصاد ،باعتبارها النموذج الأمثل للشورى ،فتقرّره كأسلوب عمل في الساحة ،وقد تجد في رأي الأقلية من أهل الخبرة والمعرفة والإخلاص الشكل الأفضل للنظام ،فتسير عليه ،وفي جميع تلك الحالات ،تبقى شرعية الأكثرية هنا ،والأقلية هناك ،مرتبطةً بالهيكل التنظيمي الشرعي للقيادة الفردية أو الجماعية مما لا سبيل إلى بحثه الآن .
الداعية بين الأكثرية والأقلية
نعود إلى الآية ،لنعيش معها في نطاق الجوّ العملي للداعية إلى الله ،نبياً كان أو إماماً أو فقيهاً أو غير هؤلاء من أفراد الأمّة ،فقد يعيش حالة ضعفٍ داخليٍّ وقلقٍ نفسي يجذبه إلى التيار الغالب في الأمّة ،لأنه يمثل القوّة ،في المال والجاه والرجال ،ما يجعل من الانتماء إليه والارتباط به مصدر قوّةٍ في مقابل إحساسه بضعف هؤلاء البسطاء الطيبين الفقراء الذين لا يستطيعون أن يمنحوا الحماية لأنفسهم ،فكيف يمكن أن يمنحوها للداعية ؟!
ولكن الله يريد أن يفتح عيون الدعاة إليه ،ليدرسوا الموضوع من نقطته الكبيرة ،وهي أن للداعية إلى الله شخصيته الرسالية التي يستمدها من حركة رسالته في الحياة ،ما يجعل من مسألة القوّة ،بالنسبة إليه ،مسألةً لا تتعلق بشخصه بل برسالته ،وبذلك يفقد صفة الانتماء الشخصي للجماعات والمؤسسات ،بل يرتبط انتماؤه بالجانب القوي من رسالته ،فإذا كان هؤلاء الأقوياء لا يؤمنون بها ولا يتعاطفون معها ،فما الذي يمكن أن ينتظره منهم عندما يرتبط بهم أو يرتبطون به ،في الوقت الذي يمثل فيه الجانب الأضعف بينما يمثلون فيه الجانب الأقوى مادياً ؟هل يمكن أن يمنحوا رسالته القوّة في الموقف ،ويتنكروا لما هم عليه من فكرٍ وسلوكٍ وهدف ؟
إن القضية ستكون معكوسة ،لأنهم سيحاولون أن يستغلّوا حاجته إليهم ،وضعفه أمامهم ،من أجل أن ينحرفوا به عن الخط المستقيم ،أو يضلّلوه عن أهداف رسالته ،وذلك بطريقةٍ قد ينتبه إليها وقد لا ينتبه ،عندما يكون غارقاً في ضباب الأجواء الذاتية والعاطفية والمثالية التي يحاولون أن يحيطوه بها ،ليشعروهو في غمرة الضباب الفكري والروحيأنه يسير في الاتجاه السليم .
ولكن ،لماذا ينطلق الداعية في هذا الاتجاه ؟ربما كانت الرغبة في الوصول إلى النتائج الكبيرة سريعاً هو ما يفكر به ،ما يجعل من قضية الاعتماد على القوى الجاهزة الموجودة في الساحة قضيةً لا تحتمل الجدل ،ولا تقبل التأخير ،لأن الفئات الآخرى لا تملك أن تقدم أيّة خدمةٍ في هذا المجال ،بل ربما تعقّد أمامه الأمور أكثر ،وذلك بإغراقه في المشاكل الصغيرة هنا وهناك ،ليقدم تنازلاتٍ لهذا الجانب ولذاك الجانب ،وتضيع القضية من بين يديه في نهاية المطاف ،عندما تحتويه هذه القوى وتستوعبه جملةً وتفصيلاً .
أمّا الإسلام ،فإنه يعتبر هذا الاتجاه اتجاهاً خاطئاً وفي أقصى درجات الخطورة ،لأن دور الداعية لا يتمثل في تحقيق النجاح السريع على مستوى السلطة أو الشهرة ،من دون قاعدة ثابتة مركزة تواجه عواصف الزمن وتحدياته ،لأن قصة الرسالة هي قصة الحياة الممتدة الواسعة ذات الأبعاد الكبيرة ،التي تنتظر الإشراقة الرائعة كما ينتظر الأفق الفجر الوليد الذي يخترق الظلام ،نقطةً هنا ونقطةً هناك ،وتتكاثر نقاط الضوء ،ثم يتدفّق الينبوع ليستوعب الأفق كله في حكايات النور .
وهكذا تنطلق الرسالة في حركة النموّ الطبيعيّ للأشياء الذي يعطي لها القوّة ،ويثبّت جذورها في الأعماق ،وتُجَمِّع حولها المؤمنين ،واحداً ضعيفاً من هنا ،وواحداً فقيراً من هناك ..ويتحوّل الأفراد إلى مجتمعٍ صغير ،وتتكاثر المجتمعات الصغيرة في هذا الموقع أو ذاك ،ثم ينطلق المجتمع الكبير ليتحوّل إلى أمّة ،وليتحرَّك في آفاق الإنسانية كلها ،ليستوعب الحياة في جميع مراحلها ومشاكلها وقضاياها الكبيرة والصغيرة .
وهكذا تبدأ عملية صنع القوّة لكل من يريد أن يبحث عن القوّة الحقيقية ،ولهذا فلا بدّ لمن يؤمن بالرسالات من أن يصبر طويلاً على مشاكلها ومتاعبها ،وتحدّيات القوى المضادة لها ،ليأخذ من كل ذلك قوّةً تتجدد مع كل مشكلة ومع كل لون من ألوان التحدي ..ويبقىقبل ذلك وبعد ذلكللرعاية الإلهية في ما يهب الله أولياءه من القوّة والصبر والثبات ،الدور الأكبر والأساس في ذلك كله .
وهكذا يريد الله للرسول الداعية ،ولكل داعيةٍ في هداه ،أن لا يواجه الموقف من هذا المنطلق ،بل أن يرفض كل هؤلاء مهما كانت كثرتهم وقوّتهم ،لأنها كثرة ضلالٍ ،وقوّة كفر ،لأنَّه لو أطاعهم{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لأضلّوه ،ولأبعدوه عن الله وعن رسالته ،ولتركوه مجرّد شخص يبحث عن ذاته ،ويلمّ شتات أوضاعه ..وماذا عن هؤلاء ؟لماذا ضلّوا ،ولماذا انحرفوا ؟{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} فهم لا يستندون إلى القناعات اليقينيّة التي تمنح الإنسان صفاء الروح ووضوح الرؤية ،بل يتبعون الظن ،فيمنعهم ذلك من التدقيق في الوجه الآخر ،لأنهم لا يتناولون الأمور ،واحدةً واحدة ليفحصوا داخلها ،وليفهموا طبيعتها ،بل يتَّبعون طريقة الخرص والتخمين ،من دون حسابٍ وتدقيقٍ ،وذلك هو سبيل الضالّين .