{الْمُمْتَرِينَ}: المترددين الشاكين .
ويستنطق القرآن رسول الله ،فيصوّره لنا في موقفه الرسالي الذي يوحي للناس بالموقف الحاسم الرافض لكل الأشخاص والرموز الذين اعتادوا أن يتحاكموا إليهم عندما يختلفون ويتنازعون ويتطلبون القول الفصل والحكم العدل الذي يخضع له الجميع ،فليس لأيّ واحد منهم حق الحاكمية ،وليس لأحد منهم أن يتخذ حكماً في أي أمر ،لأنهم لا يملكون الصلاحية في ذلك ،فهم مخلوقون لله ،خاضعون له ،محدودون في رؤيتهم وخبرتهم بالقضايا والأشياء ..
وهنا يقف رسول الله( ص ) ليوجّه النداء إلى الكون كله ،ويعلن موقفه التوحيديّ الذي لا يعتبر التوحيد مجرد اعتقادٍ ساذجٍ بوحدانية الله ،في مواجهة الذين يشركون بالله غيره ،لتبقى مجرد فكرةٍ في عقل الإنسان ،تماماً كما هي الأفكار العلمية التي تملأه بالنظريات ،ولا تقترب من الجانب العملي المتحرك ،بل يعتبر التوحيد منهجاً للحياة يبدأ من خط العقيدة ،لينتهي إلى آخر موقف من مواقف الإنسان الصغيرة والكبيرة ،فلكل كلمةٍ من كلماته خط توحيد وخط شرك ،ولكل عمل من أعماله علاقةٌ بالشرك وبالتوحيد ،حتى النوايا التي ينويها ،والدوافع التي تدفعه ،لها علاقة بذلك كله .
وفي ضوء ذلك ،كانت الحاكمية التي تمثل القوة التي يخضع لها الناس ،ويسلّمون أمرهم إليها ،مظهراً من مظاهر التوحيد والشرك ،حسب اختلاف الرمز والشخص الذي يتحاكمون إليه .
ويطلق رسول الله صيحة الاستنكار لكلّ رموز الشرك ،ليؤكّد موقفه التوحيدي لله تعالى ،وليردّ كل أمر مهما كان ،إليه تعالى ،كسنة تقود العالم وتهديهم في مسيرة حياتهم كلها ،ومن خلال هذا كله ،يطرح الحاكمية التي تعتبر القاعدة التي يرتكز عليها التوحيد لأنها السر العميق في روحيّة الاستسلام لله ،لأنها تعني أنّ الإنسان لا يستقل بأيّ فكرٍ أو حركةٍ أو عملٍ أو انتماءٍ ،بل يرجع ذلك كله إلى الله ،فهو الحكم في كل شيء .
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} وماذا يمثل غير الله ،مهما كان نوعه ،من قوّة ؟فالله هو القادر والقاهر والحكيم والخبير والخالق والعليم والمنعم ،فكيف أجعل غيره هو الحاكم في أيّ شيء ،وماذا يملك غيره ؟!وليست هذه الكلمة كلمة رسول الله فقط ،إنه لم يقلها ليعبّر عن موقفه الذاتي ،بل ليعبر عن موقف الرسالة في موقفه ،فهي لكل إنسانٍ مؤمن يريد أن يواجه قضايا الحياة ،ليقولها بقوّة ،أمام كل الذين يريدون أن ينحرفوا به عن الطريق الحق .
إن آيات الله هي أساس الفكر الذي أحمله ،والعقيدة التي أعتنقها ،والمفاهيم التي أؤمن بها ،لا أمر لي مع أمره ،ولا حكم مع حكمه ،بل له الأمر كله ،والحكم كله ،ولكن كيف تكون حاكمية الله في الحياة ؟هل تُطرح كشعارٍ يتلاقفه الطامحون ،ليعطوا لأنفسهم صلاحية الحكم باسم الله كممثلين له على الأرض في ما يقولون ويدّعون ويخترعون من أفكار ،وفي ما يصدرون من أوامر ونواهٍ ..كما يحدث في كثيرٍ من أدوار التاريخ ؟أم هل تواجه كل حلٍّ واقعيّ للمشاكل الحياتية عندما يتقاتل الناس أو يتخاصمون «بكلمة » لا حكم إلا لله » ،لتمنع أيّ نوع من أنواع التحكيم بينهم ،لأنهم يعتبرون حكم الله شيئاً معلقاً في الهواء ،أو في الفراغ ،فلا حقَّ لأحد أن يجتهد في تطبيقه أو تحريكه في حياة الناس ؟
وتأتي الفقرة الثانية من الآية بالجواب:{وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} فلم يترك المسألة فوضى يتلاقفها كل إنسان من خلال مطامحه وأحلامه ،ولم يبعدها عن متناول الإنسان لتبقى معلّقةً في الفضاء ،بعيدةً عن متناول يده ،بل أنزل الكتاب مفصلاً ،يحدّد فيه كل صغيرة وكبيرة ،ويوضح فيه الأسس التي تتحرك من خلالها القضايا ،وترتكز عليها الأمور ،في ما نريد أن نعرفه ونلتقي فيه من شؤون الحياة .
ووزان هذه الفقرة من الآية وزان قوله تعالى:{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيء} [ الأنعام:38] وهنا يتحوّل الأسلوب القرآني إلى الحديث عن هذه الحقيقة ،من خلال الذات الإلهية ،بأسلوب المتكلّم ،ليؤكد لنا أن الله لم يفرّط في شيءٍ ،بل جاء به مفصّلاً شاملاً لكل ما يحتاجه الناس ،فلا مجال للرجوع إلى غيره في أيّة قضية مما يختلف عليها الناس ،فبإمكانهم أن يرجعوا إليه ليحدّد لهم الأشخاص الذين يمثلون خطَّه ورسالته ليحكموا فيما بينهم بما أراد الله ،وليبيّن لهم القواعد التي يرجعون إليها في تحديد تفاصيل الحياة ..وهكذا يقف الناس مع حاكمية الله في حاكمية رسله وأوليائه ،وفي حاكمية دينه وشريعته التي أنزلها الله على رسله .
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} لأنهم يعرفون دلائله الواضحة ،فيما لديهم من الكتاب الذي أنزله على موسى وعيسى ،وفي ما بشّر به من نبوّة محمّد( ص ) ،لكنهم يظهرون الإنكار والشكّ والريبة ،حسداً وحقداً وعداوةً{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: من المرتابين الشاكّين ،لأن القضية واضحةٌ في وجدانك من خلال نور الحقيقة الذي ألقاه الله في قلبك ،ومن خلال ما ألقاه الله إلى رسله وأنبيائه من قبلك .