إن الكافرين يريدون آية غير القرآن والله تعالى هو الذي اختار القرآن آيته الكبرى ومعجزته الخالدة الباقية فإذا كان يستمع إليهم فقد اختارهم حكاما على آية الله تعالى التي اختار ، وذلك أمر منكر لا يرضاه مؤمن ولا يرضاه محمد صلى الله عليه وسلم ولذا قال تعالى على لسان نبيه الأمين:( افغيراللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلا ) .
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وقد كان ما قبلها طلب آيات وقسم منهم بأنها إذا جاءت ليؤمنن بها ، وكأنهم بذلك يريدون أن يجعلوا من أنفسهم حكاما على آيات الله تعالى على الآية الكبرى وهي القرآن فينكر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه أن يكونوا حكاما على آيات الله غير الله .
وقدمت همزة الاستفهام على الفاء ، لأن الاستفهام دائما له الصدارة و ( حكما ) معناها حاكم بيد أن حكمه دائما حقا صوابا والحاكم قد يكون صوابا وربما يكون غيره وقد يكون حقا وربما يكون غيره والمعنى الجملي أتقولون في القران ما تقولون وتطلبون آيات أخرى غير القرآن وتريدون أن يكون غير الله تعالى حكما وانها في هذا المقام أهواؤكم .
وهنا إشارات بيانية:
أولها:أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أبتغي غير الله تعالى حكما ، وقد قدم غير الله حكما ، لمزيد استنكار ذلك ، وإنه غير معقول وغير جائز وغير مقبول في ذاته .
الثانية:أن الابتغاء من ( بغى ) بمعنى طلب ومن موضع الاستنكار أن يرضى بغير الله حكما فضلا عن أن يبتغيه ويطلبه طلبا مشددا فيه كما يريدون أن يطلب النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى هو الذي ارتضى له هذه الآية وهي القرآن الكريم .
ولذا قال تعالى على لسان النبي:( وهو الذي أنزل عليكم الكتاب مفصلا ) وهذه الجملة حالية ، أي كيف ابتغي غير الله تعالى حكما في آياته وقد أصدر حكمه ، وانزل غليكم الكتاب مفصلا مبينا معرفا بالأحكام المطلوبة والأحكام المنهية في بلاغة تحداكم أن تأتوا بمثلها فعجزتم عجزا مبينا .
وقوله تعالى:( أنزل إليكم الكتاب ) أي آتاكم آيته الكتاب الكريم مفصلا مبنيا حجة باهرة وقد شهدت له الكتب السابقة والأنبياء السابقون ولذا قال تعالى:( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ )
فالله سبحانه وتعالى يبين أنه كتاب مجيد يعلمه السابقون من الأنبياء وهو كتاب أزلي أبدي علم أمره السابقون وسيبقى في الخلود الى يوم الدين وقد جاءت كتب اهل الكتاب بالشهادة له فهو معجزة أزلية ثابتة وقد قال تعالى في بيان ذكره في الكتب السابقة هو ورسوله الأمين:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ157 ) ( الأعراف ) فهو كتاب الخليقة الذي يشتمل على كل الحقائق الشرعية .
ولقد قال تعالى ردا على أي شكوك وارتياب:( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ94 ) ( يونس ) .
وإن شك ليس من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه شك من المشركين أداهم إليه جحود الحق وقد عرفوه ولقد قال بعد ذلك في هذه الآية .
( فلا تكونن من الممترين ) .
الامتراء:الشك ، والنهي المؤكد بنون التوكيد الثقيلة والفاء للإفصاح عن شرط مقدر فان تقدير إذا علمت أنه حكم الله تعالى وأن الكتب السابقة شاهدة على الصدق فلا تكونن من الممترين والنهي للنبي صلى الله عليه وسلم بظاهر القول ، وهو لأمته التي يدعوها إلى الإسلام والى أولئك الذين تهجموا بطلب آيات أخرى وليس النهي للنبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة ، لأن النهي عن فعل يكون حيث يتوقع وقوعه ، ولا يمكن أن يكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الذي نزل عليه القرآن فلا يمكن أن يكون منه امتراء إنما يكون من غيره وانما ذكر موجها إليه صلى الله عليه وسلم لإعلاء شأن القرآن ولبيان مكانته وأنه فوق ارتياب المرتابين ولأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم منهيا عن الامتراء وهو من نزل عليه القرآن فغيره أولى بالنهي .
وان نزول القرآن والتحدي به وعجزهم عن أن يأتوا بمثله وتقدير الله تعالى بأنه لا يؤتى بمثله قط اذ قال تعالت كلماته:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا 88 ) ( الإسراء ) .