/م114
فقال آمرا لرسوله أن يقول لهم:
{ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} الحكم ( بفتحتين كالجبل} هو من يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه ، أأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم في هذا الأمر وغيره{ وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} أي والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فيه كل ما يصح به الحكم فإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرها على لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأوضح آية على أنه من عند الله تعالى لا من عنده هو كما قال بأمر الله في آية أخرى{ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} ( يونس 16 ) جاوز الأربعين من السنين ولم يصدر عني فيه شيء من مثله في علومه ولا في إخباره بالغيب ولا في أسلوبه ولا في فصاحته وبلاغته{ أفلا تعقلون} ( البقرة 44 ) أن مثل هذا لا يكون إلا بوحي من العليم الحكيم ؟ ثم إن ما فصل فيه من سنن الله تعالى في طباع البشر وأخلاقهم وارتباط أعمالهم بما استقر في أنفسهم من الآراء والأفكار والأخلاق والعادات الموضح بقصص من قبلنا من الأمم برهان عملي على صحة ما حكم به في طلبكم الآية الكونية وزعمكم أنكم تؤمنون بها ، وقد تقدم توجيهه في تفسير السياق الأخير في طلبها وفي أمثاله ، كما تقدم بيان كون القرآن أدل على صحة الرسالة وصدق الرسول من جميع الآيات التي جاء بها الرسل عليهم السلام ، وهو في مواضع من التفسير والمنار ، ومن أقربها ما جاء في تفسير الآية 37 من هذه السورة ( ج 7 ) .
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} أي والذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منهم يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليك من ربك بالحق .وبيان هذا من وجهين أحدهما:أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن ، فمن ألف كتابا في علم الطب كان الأطباء أعلم الناس بكونه طبيبا ، ومن ألف كتابا في النحو كان النحاة أعلم الناس بكونه نحويا ، كذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله على أنبيائهم منه يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي وفي أعلى مراتب الكمال منه وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتي بمثله فكيف يستطيعه رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب قبله شيئا{ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} ( العنكبوت 48} ولذلك قال تعالى في آية أخرى{ أو لم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بني إسرائيل} ( الشعراء 197}
ثانيهما:أن في الكتب الأخيرة كالتوراة والإنجيل بشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تخفى على علمائهما في زمنه صلى الله عليه وسلم وقد بينا بعضها وسيأتي تفصيلها في الجزء التاسع وقال تعالى:{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} ( البقرة 146} وقد اعترف المنصفون من أولئك العلماء بذلك وآمنوا وكتم بعضهم الحق وأنكروه بغيا وحسدا كما بيناه في محله .
والخطاب في قوله تعالى:{ فلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ، على حد قولهم ( إياك أعني واسمعي يا جارة} وقيل:لكل مخاطب أي فلا تكونن من الشاكين في ذلك .على أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشك في كون أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق مقرونا بإخباره به لا يقتضي جواز شكه فيه بعد هذا الإخبار فإن كان يشك فيه قبله فلا ضرر .