وهذا أنموذجٌ من نماذج الالتزام بالخط الإلهيّ ،بعيداً عن أكثر مَنْ في الأرض الذين يضلّون عن سبيل الله ،وذلك لأن المؤمن الحق هو الذي يقف عند حدود الله ،في ما حلّله وحرّمه ،بعيداً عن أيّ اعتراضٍ مما قد يعترض به الآخرون وعن أيّ سوء فهمٍ مما قد يخطر في البال ،أو عدم فهم مما قد تشتبه فيه الأمور ،لأنه{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [ الأحزاب:36] فهو التسليم المطلق لله .فإذا كان الله قد رخّص في شيءٍ ،فإنّ علينا أن نستجيب لرُخصه ،من دون أن نتعقّد من ذلك ،وإذا كان قد حرّم شيئاً ،فإن علينا أن نمتثل لنهيه من دون أن نعترض على ذلك ،ثم نحاول أن نفهم سرّ الرخصة هنا وسرّ التحريم هناك ،على أن لا يغيّر ذلك شيئاً من طبيعة الأمور ،في خطّ التزام الإيمان .
وقد أراد الله للمؤمنين التحرك في هذا الاتجاه في بعض الأمور التي كانت تقع موضعاً للجدل بين المؤمنين والمشركين ،وربما أحس المسلمون ،أو بعضهم ،بشيء من الضعف في موقفهم أو في موقف الدفاع عن الحكم الشرعي الذي يلتزمون به ،فقد كان المشركون يعلّقون على ما يلتزم به المسلمون من أكل الحيوان المذكّى الذي ذكر اسم الله عليه ،وامتناعهم عن أكل الميتة ،فيقولون لهم: أتأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتله الله ؟وكأنّهمبذلكيعترضون على إخلاصهم لقضية الإيمان بالله ،لأن ما يعملونه قد يعنيفي ما يعنيهأنهم يحترمون شرعيّة أفعالهم أكثر مما يحترمون شرعية فعل الله ،فكانوا يحسّون بشيءٍ من عقدة القلق الخفيف ،في هذا الجو .
وقد جاءت هذه الآيات لتبعد عنهم هذه الأوهام التي أثارها المشركون في أنفسهم ،فهم لا يستحلّون ما يستحلّونه مما يذبحون من الحيوان احتراماً لفعلهم ،بل تعظيماً لله في ما شرّعه لأنه أباح لهم أكل الحيوان الذي ذبح على اسمه ،فكانت شرعيته منطلقةً من اسم الله الذي يوحي لهم بالشرعية ،باعتبار أنه بداية كل شيءٍ في حياة المؤمن ونهايته ،ولذلك حرّم عليهم ما لم يذكر اسمه عليه ،أو ذكر اسم غيره عليه ،لأنّه مما لم يأذن به الله ..وهكذا نعرف معنى تحريم الميتة ،لأن فعل الله في إماتته للحيوان ،لا يعطي للأكل منه شرعيّةً ،ما لم يصدر منه الإذن في ذلك ،في ما يوحيه الإذن من وجود منفعة للإنسان فيه .
الأكل مما ذكر اسم الله عليه
أمّا أسلوب الآيات ،فقد عالج المسألة من خلال الخطّ الذي ينبغي للمؤمن أن يتحرك فيه ،وهو خط الالتزام بما شرّعه الله ،حراماً أو حلالاً ،لأن ذلك هو علامة الإيمان:{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} لأن الإيمان بآياته يفرض العمل بمضمونها ،فإذا جاءت الآيات بتحليل شيءٍ فإن من المفترض على المؤمن أن يمارسه في عمله من موقع هذا الحكم ،ثم لا يمتنع عنه تحت تأثير أيّة شبهةٍ ؛