{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} في ما فصله من المحرمات في كتابه ،فإنه لم يذكر فيها تحريم ذلك ،فكيف تتوقفون فيه لمجرّد كلمةٍ تسمعونها من مشركٍ ؟!{إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وهذا هو الاستثناء من كل ما حرّمه الله ،لأن قضية الاضطرار تعني الحالة التي تتوقف عليها حياته ،بحيث لو لم يفعل هذا أو يترك ذاك لهلك ،فإن قيمة الحياة في استمرارها تعلو كل قيمةٍ أخرى سلبيّةٍ أو إيجابية ،لأن الله قد حرّم ما حرّم من أجل الحفاظ على سلامة حياة الإنسان ،فإذا كان الالتزام بالحلال يهدد حياته ،فلا بد من الالتزام به أن يتأخر ،لتتقدم حياة الإنسان .
وربما يخطر في البال أن معنى الاضطرار لا يتوقف على أن يصل الأمر إلى حدّ الهلاك ،فيمكن أن يشمل صورة وصوله إلى حدّ الحرج الذي يواجه فيه الإنسان وضعاً غير محتملٍ ،من ناحيةٍ صحيّةٍ أو عمليّةٍ ،في نطاق الظروف المحيطة به ،وهذا ما يمكن أن يصدق عليه الاضطرار في مفهوم العرف .وقد نستطيع تأكيد ذلك في ما تحدثت عنه الآية الكريمة:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [ الحج:78] و{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [ البقرة:185] فإننا نستبعد أن يكون هناك تعدّد في العناوين الرافعة للتحريم ،لا سيما بلحاظ اقتراب المفهومين من بعضهما البعض ،وتلاقيهما في أكثر من مورد ،إننا نسجل هذا الاحتمال ،من أجل أن نضعه موضع التفكير في خطّ الاجتهاد الفقهي ،لأن الوصول به إلى نتيجةٍ حاسمةٍ ،قد يحقق لنا الكثير من النتائج الفقهية على مستوى حياة الناس العمليّة .
{وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيثيرون الشبهات أمام أحكام الله وتعاليمه ،لمجرّد إرباك الموقف ،وتضليل الخطى ،ولا مانع من الشبهات إذا كانت منطلقة من قاعدةٍ علميّةٍ مستندةٍ إلى تحليلٍ فكريٍّ للأشياء ،لأنّ المنطق العلميّ يمكن أن يؤدّي إلى نتيجةٍ إيجابيّةٍ في مجال الحوار ،لأن هناك قاعدةً محددةً يمكن أن يلتقي عليها المتحاورون ،في ما يمكن أن يتحاوروا فيه من موازين العلم وقضاياه ،أمّا الشبهات التي تثار على أساس الأهواء والشهوات ،فلا مجال لإدارة الحوار حولها ،لأنها لا تستند إلى أساسٍ للأخذ والردّ ،بل كل ما يحمله دخولها هو المزيد من الأوهام والضباب والدخان ،الذي يحجب الرؤية قليلاً ،ثم يضيع في الهواء .
وفي هذه الحالة ،لا بدّ من أن يرجع الإنسان إلى قاعدة إيمانه وفكره ،فيخلو إلى نفسه ،ليعرفمن خلال ذلككيف تتبخّر كل هذه الشبهات في الفضاء من دون حاجةٍ إلى جهدٍ كبير ،لأن المسألة تتحوّلفي حركة الساحةإلى عدوانٍ على الحق ،لا إلى فكرةٍ تبحث من خلال الشبهات عما هو الحق ،في هذا الجانب أو ذاك ؛وإذا كانت القضية قضية عدوان على حدود الله ..فإن على المؤمن أن لا يتراجع عن خط الدفاع عن إيمانه وعما يفرضه هذا الإيمان من حدود ،ولن يضرّه أحدفي ذلكشيئاً ،لأن كل ما يحدث هو في علم الله{إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} وهو الذي يتولّى حسابهم في الآخرة .