وهذا هو المجتمع الذي يريد الله لرسوله أن يدخل عليه بالدعوة إليه ،وليس المجتمعات الغنيّة اللاهية المستكبرة التي أغلقت قلوبها عن كل النداءات التي تُرهِقُ الإحساس ،وتحرّك الشعور ،وتقود الإنسان إلى خط المسؤولية النابضة بحركة الحياة المسؤولة ،والتي ابتعدت عن كل الأجواء الروحية التي تدفع الخطوات في طريق السلام الأمين ..فإن هذه المجتمعات لا تمثل في حساب الدعوة القيمة الكبيرة ،في ما يتداوله الناس من حسابات القيم ،لأن الإسلام لا يعطي القيمة للجهات المنتفخة بالكبرياء والخيلاء ،بل يعطيها لتلك الجهات الجدّية المنفتحة على المستقبل في قلق الإنسان أمام قضيّة المصير ،لذا رأينا الله يوجّه رسولهوكل داعيةٍ يسير في خطّ الرسالةإلى أن ينظر الى النّاس من خلال ما يحملونه في داخلهم من الخوف على المصير ،فمن كان سائراً في أجواء اللاّمبالاة أمام ذلك ،فلا مجال للحديث معه إلا لإقامة الحجة عليه ،أو إخراجه من هذا الجوّ اللامسؤول ،فلا يتوقف الداعية أمامه طويلاً ،لأنَّ في ذلك تضييعاً للجهد بلا فائدةٍ ،فقد أغلق هذا الإنسان قلبه عن كل شيء .
أما الذين يعيشون إشراقة الخوف من الله ،عندما يذكر أمامهم اسمه ،أو تخطر في أفكارهم فكرة الوقوف بين يديه ،ويتصورون خطورة الموقف الذي يشعرون معه بالوحدة الموحشة التي لا يملكون معها وليّاً ولا شفيعاً من دون الله ..فلا بدَّ للرسول وللداعية من أن يشعر بأن أمثال هؤلاء هم الذين تتحرك الدعوة في حياتهم ،لأن الخوف من الله ،يربطهم بالكلمات المنطلقة من وحيه في عمليّة تأمّلٍ وتدبّرٍ وتفكير ويدفعهم ذلك إلى القناعة والالتزام الدقيق بالخط العملي للفكر الإسلاميّ العميق .
ومن هم هؤلاء ؟إنهم الفقراء الطيبون ،الذين لم يرهقهم ترف الغنى بمغرياته وانفعالاته ،ولم يحجب قلوبهم عن البساطة الطاهرة التي تلتقي بالحقيقة والعفويّة والطهر ،هؤلاء الذين لا يشعرون بأن الرسالة تُفقِدُهم الامتيازات التي يملكونها كما يتصور الأغنياء المترفون ،بل يحسّون بأنَّها تمنحهم فُرَصاً لم تكن لهم وتفتح لهم أبواباً كانت مغلقةً عليهم ،وتوحي لهم بالمعاني الجديدة لإنسانيتهم ،وبالآفاق الرحبة لوجودهم .وبذلك تبرز الرسالة في وعيهم ،كمنطلقٍ للإشراق الروحي والإنساني في ما يشبه الحلم الوردي الجميل .
وهذا ما يفسّر أن جنود الرسالات في بدايات الدعوة هم الفقراء والبسطاء في الأغلب ،لأنهم يفهمونها جيّداً من خلال ارتباطها بالجانب الإنساني والروحي للحياة .أمّا الآخرون من الأغنياء والمستكبرين ،فإنهم يقفون في خطّ المواجهة المضادّ الذي يشعر بالرسالة كما لو كانت الخطر الزاحف على كل وجودهم بالموت .
وفي ضوء هذا ،فإن التخصيص بهؤلاء وارد في مقام بيان واقعية الإنذار المؤثر بالنفس .فلا يبقى هناك مجال للجدل الدائر بين المفسرين ،بين قائل إن الآية نزلت في المؤمنين القائلين بالحشر وأنهم هم الذين عُنوا في الآية التالية بقوله:{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} .وقائل: إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد الموت ،وإن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة مع كون خطابات السورة متوجهةً إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق ،وقائل: إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي ،وإنما حُصر هؤلاء المعترفون بالأمر بالإنذار مع أن وجوب الإنذار عام لجميع الخلق لأن الحجة أوجبت عليهم الاعتراف بالمعاد .
إن ملاحظتنا في هذا المجال ،هي أن الآية تؤكد على الاهتمام بهؤلاء الناس الذي يعيشون همَّ الحشر إلى ربهم ،فيدفعهم ذلك إلى الاستماع بوعي والتفكير بمسؤولية ،فيهتدون بما يسمعونه من الآيات ،وليست في وارد الحديث عن الأفكار المسبقة التي يحملها المنذرون في الإيمان بيوم الحشر أو غيره .
إنها إشارةٌ إلى الإنذار الجديّ المتحرّك في الواقع المشمول بالدعوة في مقابل الذين يعيشون الحياة استرخاءً وضياعاً وترفاً وغفلةً عن مستقبل الدنيا والآخرة ،من هؤلاء الذين قد يفكرون بأن على النبي أن يطرد المؤمنين الذين لا يصنّفون من الدرجة العليا في السلّم الطبقي ،{لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ} لأن الله هووحدهالولي للخلق كلهم ،وهذا ما يؤمن به أمثال هؤلاء ،{وَلاَ شَفِيعٌ} يملك الضغط على إرادة الله بحيث يمكن لهم اللجوء إليه للحصول على الأمن من خلاله ،لأن الشفعاء الذين ثبتت لهم الشفاعة لا يملكون الشفاعة بعيداً عن إرادته وإذنه ،لأن الشفاعة لا تنفع إلا بإذنه:{وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [ الأنبياء:28] فلا استقلال لهم بالشفاعة كما يحدث في الدنيا لتتحرك من ذات الشفيع في الاستفادة من خطوته الضاغطة على صاحب الحق ،بل تتحرك من المنهج الذي وصفه الله لهم في برنامج الشفاعة ،وليس معناها أن تكون صورية تمثيلية ،بل إن الله يكرمهم بها فيشفعهم بمن يريدون الشفاعة له طبقاً للبرنامج الذي يعرفونه في الأشخاص الذين يشفعون لهم بحيث يعرفون أن الله يرتضي ذلك لهم{لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
وهذا ما جعل الآية الثانية تحذّر الرسول بشكل حاسم ،من الاستجابة لبعض الكلمات التي يحاول هؤلاء المستكبرون من خلالها إبعاد الفقراء عن أجواء الرسول ،ليخلو لهم الموقف ،وليمارسوا معه أساليب اللف والدوران ،وليغرقوا حياته بالعبث واللغو والضوضاء ،في ما اعتادوه من أحاديث وممارساتٍ ،وليثيروا أمامه المشاكل التي تثقل تفكيره ،وتُرهق مسيرته ..وتوحي له باليأس والإرهاق الشديد .
الخاضعون لإرادة الله هم حملة الرسالة
ومهما كانت القصة ،فإن الذي يهمنافي هذا المجالهو مواجهة المسألة من ناحية المبدأ ،فإن الله يريد الإيحاء للنبيّ( ص ) وللدعاة من بعده ،بأن هؤلاء الذين يعيشون الإيمان في خشوع الروح ،وخضوع الإرادة لله ،فيدعون ربهم بالغداة والعشي ،يريدون وجهه ،ولا يريدون غيره ،ابتهالاً وإخلاصاً ويقيناً ..هم القريبون إلى الله بالفكر والروح والعمل ،لأنهم الذين استجابوا له ولرسوله ،فكيف يمكن أن يبعدهم الرسول عنه ،وما هو المبرّر له في ذلك كله ؟وهل كان النبيّ يفكر لرسالته بالمستوى الطبقي الذي يعيشه الناس من حوله ؟وهل كانت الرسالة إلاّ لتغيير مثل هذا الواقع الذي يعيش فيه الناس المستضعفون اضطهاد الناس المستكبرين في ما يعيشونه من نزعة العلوّ والاستكبار ؟وماذا بعد ذلك ؟إنّ طردهم من حوله يعني النظرة السلبيّة لحركة الإيمان عندهم في إخلاص العبادة لله ،وهذا مما لا يمكن أن يقرّه الإسلام من مؤمن ،فكيف يقرّه من الرسول ؟
وقد أراد الله تأكيد المبدأ ،بالتركيز على أن كل إنسان يتحمل مسؤولية عمله ،فيحاسب عليه ،أمام الله ،فسلطة حساب الناس منوطة بالله فقط ، إلاّ بحدود ما يتعلق بالمسؤولية العامة ،الأمر الذي يفقد معه أي إنسان مبرر محاسبة غيره ،وبذلك لا يملك الرسول ولا الداعية أن يقوم بأيّ تصرفٍ سلبيٍّ ضد أولئك المستضعفين فيطردهم من حوله ،لأن الله يريده أن يحيطهم بالعناية والرعاية ،انسجاماً مع الأجواء الروحية البعيدة عن التكلّف والامتيازات الطبقية ،التي يريد الله للحياة الإسلامية أن تعيشها فيها ..فإذا انحرفت الخطى عن ذلك وابتعدت الممارسات عن هذا الخط ،فإن الجو سيكون جوّ ظلم يطبع الحياة بالعدوان ،وهذا ما لا يريده الله للنبي والذين آمنوا ،في ما أوكله إليهم من مهمة وفي ما حمَّلهم إياه من رسالة .
{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إيماناً به ،وانفتاحاً عليه ،والتزاماً بطاعته ،وحركة في سبيل الحصول على رضاه في مواقع القرب منه من خلال حالة الخشوع الروحي الذي امتلأت به عقولهم والخضوع الإرادي الذي عاشت له أرواحهم ،فهم لا يفكرون بالموقع الاجتماعي ،ولا بالربح المادي ،ولا بالشهوة الجامحة ،ولكنهم يتحركون في حياتهم على مستوى مواقعهم ومواقفهم وأوضاعهم للوصول إلى الله .
{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فهم يريدونه في معنى ذاته في سرّ الألوهية فيها ،وهذا ما يوحي به التعبير عن الذات بالوجه ،لأنها مظهر الذات في المعنى المادي للصورة ،وعلى هذا ،جاء قوله تعالى:{كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [ القصص:88] أو{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [ البقرة:115]س .
وقد ذكر صاحب الميزان أن المراد بالوجه هنا «الناحية ،أعني ما ينتهي إليه الإشارة وجهاً ،فإنها بالنسبة إلى الشيء الذي يحدّ الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل غيره به ،وبهذه الغاية تصير الأعمال الصالحة وجهاً لله تعالى ،كما أن الأعمال الطالحة وجه للشيطان ،وهذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال:{يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [ الروم:38] وقوله:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [ الإنسان:9] ،وغير ذلك ،وكذا الصفات التي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة والخلق والرزق والهداية ونحوها من الصفات الفعلية ،بل الصفات الذاتية التي نعرفه تعالى بها نوعاً من المعرفة كالحياة والعلم والقدرة ،كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها ويتوجه إليه من جهتها ،كما يشعر به بعض الإشعار أو الدلالة قوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذو الجلال والإكرام} [ الرحمن:27] فإن ظاهر الآية أن قوله:{ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} نعت للوجه دون الرب .
ونلاحظ على ذلك ،أن ما ذكره لا يخلو من التكلّف في حمل الكلمة على هذا المعنى ،لأن الآيات التي وردت فيها الكلمة ذات مضمون واحد من حيث التعبير عن الله ،ففي قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [ القصص:88] وقوله:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [ الرحمان:2627] يراد بالوجه الذات لبيان الحقيقة الوجودية ،وهو فناء الخلق كله إلا الله في ذاته فهو الباقي ،لا ناحيته وصفاته ونحو ذلك .وهكذا قوله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [ البقرة:115] وقوله تعالى:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فإن الظاهر من الآية الأولى أنك ستجد الله في أي موقع وجدت فيه ،لأن الله لا يحدّه مكان ،وكذا في الآية الثانية ،فإن الظاهر منها أن هؤلاء الناس الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدونه هو لا غيره ،بمعنى أنهم يتوجهون إلى ذاته المقدسة في مقابل التوجه إلى غيره ،وكذا قوله تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [ الإنسان:9] فإن الظاهر منها أن الإطعام لله هو للحصول على القرب منه لا لحساب غيره أو لطمع معين .والله العالم .
ما عليك من حسابهم من شيء
{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ} فليست لك علاقة بهم في واقع المسؤولية العملية في ما خصّ علاقتهم بالله ،فلست أنت الذي تحاسبهم على أعمالهم ،كما أنهم ليسوا مسؤولين عن أعمالك ولا يحاسبون عليها ،فهم أشخاص مستقلّون في وجودهم وفي مسؤوليتهم ،فالله هو الذي يملك الحساب كله ،ودورك معهم دور الرسول المبلغ للرسالة ،وتنتهي مهمتك الرسالية عند هذا الحد ،ليواجهوا استقلالهم وحريتهم في مسؤولياتهم العملية ،ولذلك فلا سلطة لهم عليك من خلال ذلك{فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} لأن الطرد يملكه الذي يملك السيطرة على الناس ،وإذا كان الله جعل لك الولاية على الناس في مواقع نبوتك وحاكميتك ،فلم يجعلها الله لك لطرد المؤمنين عن مجلسك ،فإن هذا لا يتناسب مع موقعك الرسالي ،ولا يتناسب مع قربهم من الله ومحبته لهم{فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} .