المفردات:
بالغداة والعشي: الغداة والغدوة أول النهار ،والعشي جمع عشية ،وهي آخر النهار .
التفسير:
52- ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه .أي لا تبعد أيها الرسول عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء ،ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده ،بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء والمتغطرسين ،والأقوياء الجاهلين .
جاء في تفسير ابن كثير ،في سبب نزول الآية ،ما رواه الإمام أحمد وغيره ،ونقله الأستاذ سيد قطب بأسلوبه فقال:
إن جماعة من أشراف العرب ،أنفوا إن يستجيبوا لدعوة الإسلام ،لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يؤوى إليه الفقراء والضعاف ،من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود ومن إليهم وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق ،لفقرهم ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد ،فطلب هؤلاء الكبراء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يطردهم عنه ..فأبى ..فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ،ويخصص للأشراف مجلسا آخر ،لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف ،كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي !فهم صلى الله عليه وآله وسلم رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه ،فجاء أمر الله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه .
وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص ،قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة نفر ،فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء عنا لا يتجترئون علينا !فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه ،فأنزل الله عز وجل هذه الآية ( 85 ) .
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين .
إن الله تعالى هو الذي سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شيء ،كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شيء فهم مجزيون بأعمالهم ،كما أنك مجزى لعملك .
وكان الأغنياء قد طعنوا وعابوا على النبي مجالسة الفقراء ،وطعنوا في هؤلاء الفقراء وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف ،وما يسببه وجودهم في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام .
فبين الحق سبحانه أن الله لا ينظر إلى صور الناس ولا إلى أموالهم ،وإنما ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم .
وهؤلاء الفقراء ،الراغبون في الإسلام ،لا يعيبهم فقرهم ما دامت قلوبهم غنية بالإيمان والرغبة فيما عند الله .
قال الإمام الشوكاني:
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء .أي حساب هؤلاء هو على أنفسهم ،ما عليك منه شيء ،وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء ،فعلام تطردهم ؟
أي فأقبل عليهم ،وجالسهم ،ولا تطردهم .
فتكون من الظالمين .أي إن طردتهم كنت من الظالمين .وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون من الظالمين .
قال الزمخشري في تفسير الكشاف:
فإن قلت: أما كفى قوله: ما عليك من حسابهم من شيء .حتى ضم إليه: وما من حسابك عليهم من شيء .؟قلت كيف جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة ،وقصد بهما مؤدى واحد ،وهو المعنى في قوله: ولا تزر وازرة وزر أخرى .ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا ،كأنه قيل لا تؤخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه .
وجاء في تفسير الآية للدكتور محمد سيد طنطاوي:
وهنا تخريج آخر لقوله:
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء .بأن المعنى: ما عليك شيء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء ،وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء .
أي أنت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعا ،سواء منهم الفقير والغني .فكيف تطرد فقيرا لفقره ،وتقرب غنيا لغناه ؟إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين ،ومعاذ الله أن يكون ذلك منك .( 86 ) .
وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام لا يميز بين الناس بالمال والرياسة ،بل بالإيمان والعمل الصالح ،وإن كانوا فقراء معدمين ،وعلى أن الأمراء مطالبون بإعطاء الفقراء حقهم من مجالس العلم ودوره ،وألا يمنعوهم عن مجالسة الأغنياء فيها .