مناسبة النزول
جاء في مجمع البيان:قال أبو جعفر( ع ): لما نزلت{فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال المسلمون: كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم ،فلا ندخل إذاً المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام ؟فأنزل الله سبحانه:{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} من أمرهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا .
روى الطبري عن السدّي في آية:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} ،قال: «كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي( ص ) والقرآن ،فسبّوه واستهزأوا به ،فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره » .وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل .
وروي عن ابن سيرين وغيره أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤوّلون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء .
ولما قال المسلمون: إن قمنا كلما خاضوا ،لم نستطع أن نجلس في المسجد وأن نطوف ،فنزل:{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم} أي: يتقون الله من حساب الخائفين{مِّن شَيْءٍ} أي: إثم إذا جالسوهم .
وهذه الرواية تختلف عن رواية الإمام الباقر( ع ) التي أكدت أنها نزلت في شأن المشركين .
الإعراض موقف احتجاج ضدّ الخائضين بآيات الله
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} كيف يعبّر المؤمن عن إيمانه ؟وكيف يواجه التحديات المضادّة ،الساخرة تارةً ،والمهاجمة المعتدية أخرى ،والصادرة من الكافرين ضد القاعدة الفكرية للإيمان وفروعه التفصيليّة ؟وكيف يعلن موقفه الاحتجاجيّ الرافض لذلك كلّه ،إذا لم يتمكّن من المواجهة الفكريّة المباشرة التي ترد التحدي بمثله ؟
هل يقف موقف الحائر الضائع الذي يتساقط فكريّاً وشعوريّاً أمام حالة العجز الذاتي الواقعي ،أو يستسلم في أسلوب المسالمة الصفراء التي تعبر عن نفسها بالانسجام الواهن الذليل مع الجوّ السائد ؟إن الله يريد من المؤمن أن يقف موقف الاحتجاج السلبيّ الذي يعبّر عن رفضه وسخطه بالانسحاب من الجوّ الذي يثيره الآخرون بالسخرية والتحدي والعدوان ..وهذا ما تعبر عنه الآيات الأولى أصدق تعبير .
فإذا كان المؤمن في مجلسٍ من مجالس الكافرين أو المنافقين الذين يخوضون في آيات الله في ما أنزله من عقائد ومفاهيم وأحكام ،وما أوحى به من غيب الدنيا والآخرة ،فيتناولونها بالتهجم والتجريح والسخرية والاستهزاء ،بمختلف الأساليب الصريحة أو الملتوية ..ولم يستطعكما يوحي جوّ الآيةأن يواجه ذلك بشكل مباشر ليناقش الفكر بالفكر ،ويقابل التحدي بالتحدي ،ويواجه السخرية بسخريةٍ مماثلة ..فإن عليه أن ينسحب من المجلس ليعلنبهذه الطريقة السلبيّة الموحيةرفضه لذلك كله واحتجاجه عليه ،ويؤكد انفصاله عن حركة المجتمع في هذا الاتجاه ..فإذا استطاع التأثير على الجوّ بهذا الأسلوب ،فتغيّر الحديث تبعاً لموقفه ،أو انتهى كلامهم في هذا الجو ،وانتقل إلى جوٍ آخر ،فيمكنه الرجوع إلى المجلس ،لأن المطلوب ليس مقاطعة هؤلاء ،بل إعلان الموقف الرافض لمثل هذه الأجواء والمواقف المضادّة .
تلك هي الحالة الطبيعية للمؤمن الواعي الذي يعيش حياته اليومية مع الناس الآخرين بيقظة وتمييز للخطوط الفاصلة بين الإيمان والكفر ،ويشعر باختلافه عن الكافرين ،فإن المفروض منه أن يؤكد إيمانه بالتعبير عنه باتخاذ مواقف إيجابيّةٍ أو سلبية ،وذلك من موقع المسؤولية أمام الله .
فإذا غفل عن ذلك ،أو ضعفت إرادته ،فنسي ،استجابة منه للشيطان ولضعفه البشري ،خوفاً من الخسائر المادية أو المعنوية أو المشاكل التي تحدث له من قبل هؤلاء إذا ما تعرض لهم ،أو احتجّ عليهم ،أو أعلن التمايز بين موقفه وموقفهم ،فإن عليه أن يستغفر الله من ذلك ،ويفتح قلبه للذكرى المنطلقة من وحي الله في آياته ،ويؤكد موقفه من خلالها ،فيعيش الحذر الدائم من الوقوع من جديدٍ في حالة الغفلة والضعف ،فلا يعود مرّة أخرى ،بعد هذه الذكرى ،إلى الوقوع في التجربة الصعبة ،فيستسلم للموقف الضعيف الذي تفرضه عليه مجاملته للقوم الظالمين .