{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ} وتلك مقالة شيخ المنافقين عبد الله بن أبيّ الذي كان يعبر بها عن جمهور المنافقين الذين يتبعونه ،على أساس أنه هو الأعز الذي يملك الامتداد العشائري في المدينة ،بينما لا يملك ذلك رسول الله الذي اعتبره الأذلّ ،وذلك باعتبار أنه غريبٌ فيها وهو ليس من أهلها ،ولا عشيرة له فيها .
وقصة هذه الآية في سبب نزولها ،أن رسول الله( ص ) بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه ،وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي( ص ) .فلما سمع بهم رسول الله( ص ) ،خرج إليهم حتى لقيهم على ماءٍ من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل ،فتزاحف الناس واقتتلوا ،فهزم الله بني المصطلق وقتل منهم من قتل ،ونقل رسول الله( ص ) أبناءهم ونساءهم وأموالهم ،فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ،ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد ،يقود له فرسه ،فازدحم جهجاه وسنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا ،فصرخ الجهني يا معشر الأنصار ،وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين ،فأعان الغفاري رجلٌ من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيراً ،فقال عبد الله بن أبيّ لجعال: إنك لهتاك ،فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك ،واشتد لسان جعال على عبدالله ،فقال عبدالله: والذي يحلف به لآزرنك ويهمك غير هذا .وغضب ابن أبيّ وعنده رهطٌ من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أبيّ: قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ،والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمِّن كلبك يأكلك ،أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ ،يعني بالأعزّ نفسه ،وبالأذلّ رسول الله( ص ) ،ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم ،أحللتموهم بلادكم ،وقاسمتموهم أموالكم ،أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم .فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ،ومحمد( ص ) في عز من الرحمن ومودةٍ من المسلمين ،والله لا أحبك بعد كلامك هذا ،فقال عبدالله: اسكت ،فإنما كنت ألعب .فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله( ص ) وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر ،فأمر رسول الله( ص ) بالرحيل ،وأرسل إلى عبدالله فأتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك ؟فقال عبدالله: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك قط ،وإن زيداً لكاذب ،وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله ،شيخنا وكبيرنا لا نصدق عليه بكلام غلامٍ من غلمان الأنصار ،عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه ،فعذره رسول الله( ص ) وفشت الملامة من الأنصار لزيد .
ولما استقل رسول الله( ص ) فسار ،لقيه أسيد بن الحضير ،فحياه بتحية النبوة ثم قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعةٍ منكرةٍ ما كنت تروح فيها ،فقال له رسول الله( ص ): أوما بلغك ما قال صاحبكم ،زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل ،فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ،هو والله الذليل وأنت العزيز ،ثم قال: يا رسول الله ارفق به ،فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوِّجوه ،وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً .وبلغ عبدالله بن عبدالله بن أبيّ ما كان من أمر أبيه ،فأتى رسول الله( ص ) فقال: يا رسول الله ،إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي ،فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به ،فأنا أحمل إليك رأسه ،فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه مني ،وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله ،فأقتل مؤمناً بكافرٍ ،فأدخل النار ،فقال( ص ): بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا .
قالوا: وسار رسول الله( ص ) بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ،وليلتهم حتى أصبح ،وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ،ثم نزل بالناس ،فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياماً ،إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبيّ ،ثم راح بالناس حتى نزل على ماءٍ بالحجاز فويق البقيع يقال له بقعاء ،فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها ،وضلَّت ناقة رسول الله( ص ) وذلك ليلاً ،فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة ،قيل: مَنْ هو ؟قال: رفاعة ،فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ،ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي ؟فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة ،وأخبر رسول الله( ص ) بذلك أصحابه وقال: ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه ،ولكن الله تعالى أخبرني قول المنافق وبمكان ناقتي ،هي في الشعب ،فإذا هي كما قال ،فجاؤوا بها وآمن ذلك المنافق ،فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت ...
قال زيد بن أرقم: فلما وافى رسول الله( ص ) المدينة ،جلست في البيت لما بي من الهم والحياء ،فنزلت سورة «المنافقون » في تصديق زيد وتكذيب عبدالله بن أبيّ ،ثم أخذ رسول الله( ص ) بأذن زيد فرفعه عن الرحل ثم قال: يا غلام صدق فوك ووعت أذناك ووعى قلبك ،وقد أنزل الله في ما قلت قرآناً .وكان عبدالله بن أبي بقرب المدينة ،فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبدالله بن عبدالله بن أبيّ حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال: ما لك ويلك ؟فقال: والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله ولتعلمن اليوم من الأعز ومن الأذل ،فشكا عبدالله ابنه إلى رسول الله( ص ) ،فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله( ص ) فنعم ،فدخل ،فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات .
فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبدالله قيل له: نزلت فيك آيٌ شداد فاذهب إلى رسول الله( ص ) يستغفر لك ،فلوى رأسه ثم قال:أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت ،وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت ،فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزل:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُؤوسَهُمْ} إلى قوله:{لاَ يَعْلَمُونَ}[ 1] .
الرسول يعالج المشكلات بالأسلوب الإسلامي
وقد نلاحظ في هذه القصة صلابة الأنصار الذين كانوا مع رسول الله( ص ) ،في رفضهم الخضوع للإثارة العاطفية التي حاول عبدالله بن أبي أن يثيرهم بها ،في تحريك العصبية ضد المسلمين من المهاجرين ،كوسيلةٍ من وسائل إيجاد خللٍ عميقٍ في المجتمع الإسلامي ،كما نلاحظ موقف زيد بن أرقم الشاب في شجاعته الأدبية أمام هذا المنافق الكبير بالرغم من تفاوت السن بينهما ،في دلالة ذلك على روح التمرد الإيمانية التي تتجاوز كل الأعراف في الوقوف ضد الأساليب النفاقية .
وهكذا نقف بكل تقديرٍ وإعجابٍ أمام موقف ولده عبدالله الذي استعد ليقتل والده بأمر رسول الله ،إذا كان له أمرٌ بذلك ،لئلا يقتله مسلم آخر ،فيتعقد ضده بفعل النوازع النفسية العاطفية الطارئة التي يمكن أن تحدث له ،بفعل عوامل الإثارة ،ثم تأكيده الحاسم على منع أبيه دخول المدينة إلا بإذنٍ من رسول الله( ص ) ،ليثبت له وللناس أن الرسول وحده هو الذي يملك الأمر كله ،فلا يملكه أحدٌ غيره ممن قد تسوِّل له نفسه أن يجد في نفسه موقعاً للقوة ،أو يرى في موقعه موقعاً للعزة المميزة على الرسول وعلى المسلمين .
ثم نلاحظ في أجواء الأسلوب الرسالي الذي عالج به النبي( ص ) المسألة كيف أثار القضية معه ليدفعه إلى تكذيب نفسه أمام الجماهير ،وليستثير احتجاج المسلمين الآخرين ،لإبعاد المسألة عن تأثيراتها المحتملة في داخل المجتمع بفعل العصبية الطارئة ،ثم كان موقفه العفو العملي عنه ،وتوجيه ولده بأن يحسن صحبته وأن يرفق به ما دام عضواً في المجتمع الإسلامي من موقع الانتماء الشكلي ،لأن المرحلة كانت تفرض ذلك ،لئلا يكون التصرف العنيف سبباً في إثارة بعض المواقع الضعيفة تحت تأثير ردود الفعل العصبية المحتملة ،لأن البعض كان لا يزال جديد عهدٍ بالإسلام ،ما يجعله غير قادر على خوض التجربة الصعبة في الداخل .
ولا بد لناكإسلاميين يخوضون الحركة الإسلامية في المجتمع الذي تتحرك فيه بعض نماذج النفاقمن أن ندرس التجربة الرسولية في هذا المجال ،في تعامله مع المنافقين بالطريقة التي يمكننا من خلالها أن نحفظ سلامة الحركة في دائرة النظرية والتطبيق .
وللّه العزّة ولرسوله وللمؤمنين
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فإن العزة تنطلق من مواقع القوة التي تمنح صاحبها القدرة على إخضاع كل القوى له ،والوقوف أمامها لمنعها من التحرك في الاتجاه الذي يؤكد قوتها في مقابل قوته .والله هو القاهر فوق عباده ،والمهيمن على الأمر كله ،وليس لعباده معه شيء ،فهم الفقراء إليه في كل شيء ،وهو الغني عنهم في كل شيء ،ما يجعل العزة له جميعاً ،كما أكد ذلك في كتابه العزيز ،{وَلِرَسُولِهِ} الذي يستمد عزته من الله ،لأنه يستمد قوته منه ،فينصره على الكافرين والمشركين ،ويظهر دينه على الدين كله ،{وَلِلْمُؤْمِنِينَ} في ما يعيشونه في داخل أنفسهم من الشعور بالقوة من خلال اعتمادهم على الله وتوكلهم عليه ،ما يجعلهم في الموقع القوي الذاتي المتحرك في إرادتهم الصلبة الرافضة لأي ذلّ .
فالمؤمن لا يعيش الضعف الداخلي أمام كل التهاويل والضغوط التي يوجهها إليه الكافرون والمشركون والظالمون ،ما دام واعياً لإيمانه ولموقعه من ربه وموقع ربه منه ،وذلك في ما عبر عنه الرسول( ص ) لصاحبه{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [ التوبة:40] ،وفي ما حدثنا الله عن موقف المؤمنين{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [ آل عمران: 173] ،وفي ما يواجه به المؤمنون الكافرين في ساحة القتال{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [ التوبة:52] ،ما يوحي بأن المؤمن لا يخاف الموت ،فلا يضعف أمام كل التهاويل التي تخوّفه بالموت .
الإمام الصادق ( ع ) يستوحي الآية
وقد استوحى الإمام جعفر الصادق( ع ) من الآية عمق العزة في شخصية المؤمن ،من خلال عمق إرادة العزة في حركة إيمانه ،فقد جاء في الكافي بإسناده إلى سماعة عن أبي عبدالله ( جعفر الصادق( ع ) قال: إن الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن أموره كلها ،ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه ،ألم تر قول الله سبحانه وتعالى ههنا{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً[ 2] .
العزة في أجواء خط الحرية
وهكذا نستطيع أن نؤكد خطّ العزة الذي يلتقي بخط الحرية كخط مستقيمٍ في الواقع الإسلامي ،بحيث لا يملك المسلمون جماعاتٍ وأفراداً أن ينحرفوا عنه إلى خط الذل ،لأن المسألة تتصل بأصالة الإنسان المسلم في شخصيته وفي حركيته وموقع الإسلام في الحياة .وفي ضوء ذلك ،لا بد من أن يرسم المعنيون بحركة السياسة الإسلامية ومواقع التحدي في ساحة الصراع ،السياسة الإسلامية ،على أساس انفتاح خطوطها على معنى العزة ،وانطلاق حركة الصراع في هذا الاتجاه ،فيكون الخط الذي يبتعد عن ذلك خطاً غير شرعي من جهةٍ ،وخائناً لأمانة الإسلام والمسلمين من جهةٍ أخرى ،مهما حشد له أصحابه من التأييد الشعبي ،لأن الشعب لا يملك أن يذل نفسه ،كما أن القيادة لا تملك الحرية في أن تفرض ذلك على الواقع وعلى الناس ،انطلاقاً من وعي هذه القيمة الروحية والسياسية التي تفرض العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ،بالرغم من تهويلات المنافقين والكافرين ،{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم لا يعرفون عمق القوة والحرية والعزة في العقيدة الإسلامية ،والعمق الروحي في شخصية المسلم ،ما يجعلهم ينظرون إلى الواقع من خلال الضغوط المادية على المسلمين ،ولا ينظرون إلى الإرادة الإسلامية الصلبة في ما هو التصميم والموقف الحاسم في مواجهة التحديات .