{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فإذا ضاق به رزقه ،وأغلقت عنه مداخله ومخارجه من خلال الوسائل التي يملكها في ساحته العملية ،فإن عليه أن لا يستغرق في حدود هذه الوسائل ،بل يفكر بطريقةٍ إيمانيةٍ بأن الله الذي أخرج النبتة من قلب الأرض الميتة ،ومنح الأرض الجرداء الحياة من خلال المطر النازل عليها ،وأجرى الرزق للحشرات الدقيقة في أعماق الأرض ،وخلق الأقوات للهوام المنتشرة في الفضاء ،هو القادر على أن يبعث إليه رزقه من غير الأماكن التي يترقبه فيها ،وبغير الوسائل التي يملكها ،فيرزقه من حيث لا يتصور ولا يحتسب ،ليكون ذلك أشبه بالمفاجأة التي تصدم يأسه ،وتحطم شعوره بالخيبة والضياع .
ومن يتوكل على الله فهو حسبه
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} لأنه الذي يملك الأمر كله ،فهو يملك الناس كلهم ،والحياة كلها ،ويملك ما يملكه الآخرون ،لأنه هو الذي منحهم الملك والقدرة على تحريكه في كل مواقع الحركة ،ما يجعل التوكل عليه انطلاقاً من مواقع الثقة الثابتة التي لا مجال فيها لأي اهتزاز روحي ،لأن الله هو الذي تتحرك الأشياء من موقع إرادته ،فإذا أراد شيئاً كان ،فلا يمنعه من تنفيذ إرادته مانع في الأرض ولا في السماء ،{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [ الطلاق:3] ،{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [ يس:82] .
قد جعل الله لكل شيءٍ قدراً
{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} فقد خلق الكون كله ،وجعل له نظامه الدقيق المحكم المتوازن المتكامل في كل معطيات الوجود ،بحيث كان لكل شيء حدٌّ في الزمان والمكان والحركة والغاية ،ما يفرض أن الحدود إذا بلغت مداها ،فلا بد من أن تحقق نتائجها بإذن الله ..ولكن لا بد لنا من أن نفكر بأن هناك نوعين من الأسباب في ما تتحرك به حياة الإنسان: فهناك الأسباب الظاهرة التي تنفتح عليها المعرفة الإنسانية في طبيعتها وفي حدودها ،في ما يخضع له جانب اليأس والأمل عندما تتجمع لديه أو تبتعد عنه ،وهناك الأسباب الخفية التي تندرج في عالم الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله .فإذا ضاقت الأسباب الظاهرة لدى الإنسان ،فإن عليه أن يتطلع إلى الله ليرجو منه حل المشكلة من خلال ما يعلمه في غامض علمه من شؤون الأسباب والمسببات ،ليبقى مشدوداً إليه في كل أموره الظاهرة والخفية ،فلا ييأس من روحه في كل لحظةٍ من لحظات الوعي الإيماني الخاشع بين يديه .
وقفة تأملية أمام الآية
وقد نلاحظ في وقفةٍ تأمليةٍ أمام هذه الآية أنها تؤكد للإنسان المؤمن عدة نقاطٍ في حركة حياته:
1الشعور الدائم بأنّ الله لا يخذله في ما يواجهه من صعوبات الحياة ،فلا يضيق به موقفٌ ،ولا ينغلق عنه بابٌ ،بل يبقى متقدماً منطلقاً نحو الفرصة الغيبية التي يمنحها الله ،أو نحو المجهول الغامض الذي يكشفه ،ولكن لا على أساس أن يجلس جلسة الاسترخاء التي ينتظر فيها الفرج من غامض علم الله ،من دون سعيٍ ولا حركةٍ ،بل يبقى في حركته المندفعة نحو الغاية ،مترقباً ثغرةً في هذا الحائط المسدود ،أو مدخلاً في هذا الطريق الضيق ،في ما يمكن أن يكون قد أغلق عليه أمره ،أو في ما يمكن أن يفتحه الله عليه ،فلا تكون القضية عنده فرصةً للكسل ،بل انطلاقةً للعمل .
2أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى مسألة الرزق على أساس أن أمره بيد الله ،فإذا أغلق عنه باب ،فهناك أكثر من باب مفتوح في علم الله ،وإذا ضاق به مصدر ،فهناك أكثر من مصدرٍ ،ما يجعله يعيش الضيق على أساس انتظار السعة ،والشدة على أساس انتظار الرخاء ،الأمر الذي يعينه على التمرد على إغراءات الآخرين الذين يستغلون أوقات الضيق لدى الإنسان المؤمن ،ليلوّحوا له بالمال الذي يفقد معه حريته ،في ما يفرضونه عليه من شروطٍ صعبةٍ ،من أجل أن يستعبدوا بها إنسانيته ،ويضغطوا بها على قراره ،وينحرفوا به على أساسها عن الطريق المستقيم .وهذا هو ما يعيشه الضعفاء أمام حاجاتهم المعاشية عندما يواجهون الحصار المالي في كل جوانب حياتهم .
إن الآية توحي للمؤمن بأن عليه الصبر الواعي الذي يحفظ به موقفه لينتظر الرزق من الله من حيث لا يحتسب ،تماماً كما هي الإشراقة القوية التي تصدم الظلام بقوةٍ فجائيةٍ فتطرده بشكل سريع .
3الثقة بالله في وعده ،من خلال الإيمان بأنه بالغ أمره ،وبأنه الكافي لمن توكّل عليه ،ولا كافي غيره ،لينفتح عليه من أوسع الآفاق ،وليثق بحياته السائرة في خطه من أوسع الآفاق ،على أساس الإيمان به .
4الإحساس بأن الحياة في انتصاراتها وهزائمها وفي أفراحها وأحزانها لا تتحرك قي أجواء الفوضى ،بل تخضع لنظامٍ كونيٍّ متوازنٍ ،يضع كل شيءٍ في موضعه ،ويقدر لكل حدثٍ قدره ،على مستوى الظواهر الكونية أو الظواهر الإنسانية ،فيدفعه ذلك إلى التعرف على أسرار الحياة ،ليشعر بالثبات في كل حركة الظواهر في قوانينها العامة ،فلا يعيش في أجواء الضياع والقلق والحيرة والعبثية ،في ما يتحدث به الذين يسقطون أمام مصائب الحياة ومشاكلها .
مع صاحب الميزان في مضمون الآية
وقد حاول صاحب تفسير الميزان أن يستفيد من الآية في النظر إلى إطلاقها في نفسها مع الغض عن سياقها ،معنى قريباً من المعاني العرفانية الفلسفية ،فقال في قوله تعالى:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} مفاده أن من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه ،ولا يتم ذلك إلا بمعرفته تعالى بأسمائه وصفاته ،ثم تورعه واتقاؤه بالاجتناب عن المحرمات وتحرز ترك الواجبات خالصاً لوجهه الكريم ،ولازمه أن لا يريد إلا ما يريده الله ،من فعل أو ترك ،ولازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله فلا يصدر عنه فعل إلا عن إرادة من الله .
ولازم ذلك أن يرى نفسه وما يترتب عليها من سمةٍ أو فعلٍ ملكاً مطلقاً لله سبحانه يتصرف فيها بما يشاء ،وهو ولاية الله ،يتولى أمر عبده ،فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شيء إلا ما ملّكه الله سبحانه ،وهو المالك لما ملكه ،والملك لله عزّ اسمه .
وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم وسجن الشرك بالتعلق بالأسباب الظاهرية ،{يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} أما الرزق المادي ،فإنه كان يرى ذلك من عطايا سعيه ،والأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها وما كان يعلم من الأسباب إلا قليلاً من كثيرٍ ،كقبسٍ من نارٍ يضيء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه ،وهو غافلٌ عما وراءه ،لكن الله سبحانه محيط بالأسباب ،وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها .
وأما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي تعيش به النفس الإنسانية وتبقى ،فهو مما لم يكن يحتسبه ولا يحتسب طريق وروده عليه .
وبالجملة ،هو سبحانه يتولى أمره ويخرجه من مهبط الهلاك ويرزقه من حيث لا يحتسب ،ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئاً ،لأنه توكل على الله وفوَّض إلى ربه ما كان لنفسه ،{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطىء تارةً وتصيب أخرى ،{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} لأن الأمور محدودةٌ محاطةٌ له تعالى و{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} فهو غير خارج عن قدّره الذي قدره به »[ 1] .
ونلاحظ على هذا التفسير ،أنه بعيدٌ عن ظاهر الآية ،لو نظرنا إليها بنفسها ،فإنها تشبه الآيات التي تتحدث عن الوعد بالجنة أو بالنصر ،أو بالفلاح على تقدير السير في خط التقوى الذي يتمثل في خط السير العملي للإنسان ،لتكون الأمور المترتبة عليه بمثابة الجزاء على التقوى ،من دون أن تكون بمثابة النتائج الداخلية المعنوية له ،بل هي بمثابة الأمور المنفصلة عنه .ولعل التعمق الفلسفي العرفاني هو الذي أدى إلى الفهم بعيداً عن منطق الآية .