قوله تعالى:{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شيْءٍ قَدْراً} .
بعد الأمر بإحصاء العدة ،وكون العدد مختلفة الأنواع من إقراء إلى أشهر إلى وضع الحمل ،والمعتدات متفاوتات الإقراء وأمد الحمل ،فقد تكون في أوله أو وسطه أو آخره ،وكل ذلك لا بد من إحصائه لما يترتب عليه من حرمة وحلية ،فتخرج من عدة هذا وتحل لذاك .
كما قال تعالى{وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [ البقرة: 235] وهذا كله لا يتأتى إلا بالإحصاء .
والإحصاء لا يكون إلا لمقدر معلوم ،وعليه فقوله تعالى:{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} مؤكد لهذا كله ،وكذلك فيه نص صريح أنه تعالى قد جعل لكل شيء من الأشياء أياً كان هو قدراً لا يتعداه لا بزيادة ولا بنقص ،ولفظ شيء أعم العمومات .
وقد جاءت آيات كثيرة دالة على هذا العموم عامة وخاصة ،فمن الآيات العامة قوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [ القمر: 49] .
وقوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [ الفرقان: 2] .
وقوله:{وَكُلُّ شيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [ الرعد: 8] .
وقد جمع العام والخاص قوله:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [ الحجر: 21] .
ومن التقدير الخاص في مخصوص قوله:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الليل سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِيفَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [ يس: 38 -40] .
إنها قدرة باهرة وحكمة بالغة ،وإرادة قاهرة ،وسلطة غالبة ،قدرة من أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون .
وقد قال علماء الهيئة: أن حساب مسير هذه الأفلاك في منازلها أدق ما يكون من مآت أجزاء الثانية ،ولو اختلف جزء من الثانية لاختل نظام العالم ولما صلحت على وجه الأرض حياة ،ونحن نشاهد حركة الليل والنهار ونقصانهما وزيادتهما وفصول السنة كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الليل وَالنَّهَارَ عَلِمَ أنَ لَّن تُحْصُوهُ} [ المزمل: 20] .
وهو سبحانه وتعالى يحصيه ،وكذلك التقدير لوجود الإنسان قبل وبعد وجوده ،قال تعالى:{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [ عبس: 18 -19] أي قدر خلقه وصورته ونوعه كما بين ذلك بقوله:{يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} الآية .
إلى قوله:{إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [ الشورى: 49 -50] .
وهذا أيضاً من آيات قدرته يرد بها سبحانه على من جحد وجود الله وكفر بالبعث كما في مستهلها قوله تعالى:{قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [ عبس: 17 -18] .
ثم بين تعالى أنه خلقه من نطفة ماء مهين ،ولكن قدر الله تعالى قدرتها وصورتها حتى صارت خلقاً سوياً ،وجعل له وهو في بطن أمه عينين ولساناً وشفتين أي وأنفاً وأذنين ويدين ورجلين وكل جهاز فيه حير الحكماء في صنعه ونظامه .
ثم قدر تعالى أرزاقه على الأرض قبل وجوده يوم خلق الأرض ،وجعله آية على قدرته وعاتب الإنسان على كفره{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [ فصلت: 9 -10] .
وبعد وجود الكون وخلق الإنسان قدر في الإيجاد بإنزال المطر ،{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} [ عبس: 24 -28] .
ثم إن صب هذا الماء كان بقدر ،كما في قوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ} [ المؤمنون: 18] .
وقوله:{وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} [ الشورى: 27] أي بقدر ما يصلحهم ولو زاده لفسد حالهم ،كما في قوله قبلها{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ} [ الشورى: 27] وبقدر مصلحتهم ينزل لهم أرزاقهم .
كما نبه على ذلك بقوله:{إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رآهُ اسْتَغْنَى} [ العلق: 6 -7] .
هذه لمحة عن حكمة تقدير العزيز الحكيم الذي أحسن كل شيء خلقه ،والذي قدر الأشياء قبل وجودها كما في قوله:{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [ الأعلى: 3] .
وكما في حديث القلم وكتابة كل شيء قبل وجوده بزمانه ومكانه ومقداره ،إن آية القدرة وبيان العجز قدرة الخالق وعجز المخلوق كما في قوله تعالى:{فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [ النحل: 21] .
وكقوله:{وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [ فاطر: 11] أي لا يتعداه ولا يتخطاه ،وقد تحداهم الله في ذلك بقوله:{فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ الواقعة: 83 -87] كلا إنهم مدينون ولن يستطيعوا إرجاعها .
وهنا يقال للدهريين والشيوعيين الذين لا يعترفون بوجود فاعل مختار وعزيز قهار ،إن هذا الكون بتقديراته ونظمه لآية شاهدة وبينة عادلة على وجود الله سبحانه وتعالى} فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [ يس: 83] .
كما يقال للمؤمنين أيضاً إن ما قدره الله نافذ ،وما قدر للعبد آتيه ،وما لم يقدر له لن يصل إليه ،طويت الصحف وجفت الأقلام{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} [ الحديد: 23] .
ويقال مرة أخرى: اعملوا كل ميسر لما خلق له ،وبالله تعالى التوفيق .