{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي إذا بلغن الحد الأخير الذي ينتهي بعده الأجل ،في ما يقارب نهاية العدة ،فلا تواجهوا الموقف بطريقة التعسف لتضطهدوا المرأة لتبقى معلقةً في العدة ،ورفض السماح لها بحريتها في اختيار طريقة الحياة التي تريدها ،في البقاء حرة من دون التزامٍ بعلاقةٍ زوجيةٍ جديدةٍ ،أو في اختيار علاقةٍ أخرى ،لأن بعض الأزواج المعقّدين ربما يعيشون العقدة النفسية التي لا يطيقون فيها أن يتصوروا علاقة أشخاص آخرين بزوجاتهم السابقات ،بفعل الغيرة العمياء ،والأنانية الجاهلة .وهذا هو الذي أراد الله أن يواجهه في سلوك الإنسان ليقول له: إن التشريع قد أفسح له مجال الرجوع إلى زوجته في أثناء العدة من دون مقدمات إذا كانت له رغبةٌ بها .وفي هذه الحال ،لا بد من أن يرجع إليها ،في ما عبر عنه بالإمساك ،ولكن بالمعروف الذي يحترم فيه علاقته بها كإنسان يحترم كل حاجات الإنسان فيه ،من حسن الصحبة والقيام بالحقوق المفروضة .أما إذا لم يَعد له أية رغبةٍ بها ،لأن المشاكل التي فرضت الطلاق لا تزال كما هي ،بحيث لم تعد العلاقة الزوجية أمراً مريحاً له أو للطرفين ،فهناك الحل الآخر ،وهو إفساح المجال لهذه المرأة في أن تعيش حياتها الخاصة ،من خلال قرارها الحر ،فليبتعد عنها ابتعاداً كلياً ،وهذا هو الخيار الثاني .
{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ليذهب كل منكما إلى سبيله ،ليختار نمط حياته الجديد .
{وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} على الطلاق عند إيقاعه ،أو على الرجعة عند حصولها .والمراد بالعدل هو الإنسان المستقيم على خط الشريعة في أفعاله وأقواله ،كما تقدم الحديث عنه في سورة البقرة .
أقيموا الشهادة لله
{وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} في ما تحملونه من شهادةٍ حول هذا الموضوع أو غيره كمسؤوليةٍ شرعية ملزمةٍ ،لأنها ليست مسألةً ذاتيةً لترفضوا إقامتها أو تقبلوها ،وليست متصلة بالمشهود له ،لتحددوا موقفكم منها على أساس العلاقة السلبية أو الإيجابية منه ،في ما تفرضه مصالحكم الخاصة في السلب أو الإيجاب ،بل هي مسؤولية الحق الذي يريد الله من الإنسان أن يعمل على إظهاره في ما يتوقف فيه ظهوره على تقديمه المعلومات الخاصة التي يملكها عنه ،بإقامة الشهادة عليه أمام الجهات المسؤولة التي تملك أمر الفصل فيه ،لتكون الشهادة لله من موقع الطاعة له ،للحصول على رضوانه .
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} لأنه هو الذي يعيش الشعور بالمسؤولية في عمق حياته ،من خلال إيمانه بالله الذي يسعى للقرب منه ،ومن خلال إيمانه باليوم الآخر الذي يرغب في الحصول على النتائج الطيبة فيه على مستوى المصير ،فيدفعه ذلك إلى الوقوف عند حدود الله ،والسير على خط التقوى ،والإخلاص في الشهادة لله .
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} في ما تمثله التقوى من السير على خط الإيمان بالله واليوم الآخر ،في إيحاءاته الروحية والتزاماته العملية ،ما يجعله محبوباً لله ،مرضياً عنده ،قريباً إليه ،فينظر إليه بعين الرحمة ،عندما تضيق به الأمور ،وتغلق عنه الدروب ،وتنسدّ عليه نوافذ الخلاص ،فلا يملك سعة في الحركة ،ولا مخرجاً في الدرب ،ولا منفذاً في الأفق ،فهناك يجعل الله له المخرج حيث لا مخرج ،والسعة حيث لا مجال لأية سعةٍ ،والمنفذ حيث لا منفذ ،لأن الطرق المسدودة والنوافذ المغلقة والساحات الضيقة هي ما يفكر الإنسان فيها بعقلية المأزق الذي لا خلاص منه ،لأنه يفكر بالحدود المادية للأشياء ،في ما تخضع له الأشياء من حوله للحدود ،ولكن الله الذي فتح للإنسان مسارب الحياة وآفاق الانطلاق ،يملك في غامض علمه أكثر من مخرجٍ ونافذةٍ تطل بالإنسان على آفاق الفرج ،ما يفرض عليه ،في وعيه الإيماني ،أن لا يسقط أمام الباب المسدود ،لأنه لا أبواب مسدودة أمام قدرة الله ،وأن لا يستسلم لليأس ،لأن اليأس يتحرك في دائرة القدرة المحدودة ،ولا حدود لقدرة الله الذي يتدخل بقوته ليبعث الأمل من قلب اليأس كما أخرج الوجود من قلب العدم .