{صُدُورِهِم}: الصدر ما يصدر من جهته التدبير والرأي ،ومنه قيل للرئيس: صدر .
{غِلٍّ}: الغل: الحقد الذي ينغل بلطفه إلى صميم القلب ،ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة ،ومنه الغُلّ الذي يجمع اليدين والعنق بانغلاله فيهما .
{تَجْرِي}: الجريان انحدار المائع ،فالماء يجري والدم يجري وكل ما يصح أن يجري فهو مائع .
{الأنْهَارُ}: النهر: الواسع من مجاري المياه ،ومنه النهار لاتساع ضيائه .
{وَنُودُواْ}: النداء: الدعاء بطريقة يا فلان .
{أُورِثْتُمُوهَا}: قال الراغب في المفردات: الوراثة والإرث: انتقال قنْيَةٍ إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد ،وسمي بذلك المُنْتَقِلُ عن الميِّت: يقال للقِنْيَة الموروثة: ميراثٌ .وإرثٌ وتراثٌ أصله وراث ،فقلبت الواو ألفاً وتاءً ،قال:{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} ،وقال ( عليه الصلاة والسلام ) اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم ،أي أصله وبقيته .قال الشاعر:
فينظر في صُحُفٍ كالرِّبا طِ فيهنَّ إِرثُ كتابٍ مُحِي
...ويقال لكل من حصل له شيءٌ من غير تعب: قد ورث كذا ،ويقال لمن خُوّل شيئاً مهنّئاً: أُورِث ،قال تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [ الزخرف:72] ،{أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ}[ 2] [ المؤمنون:1011] .
وذكر صاحب تفسير الميزان وجهاً آخر قال: «وقد جعلت الجنة إرثاً لهم في قبال عملهم ،وإنما يتحقق الإرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره .يقال: ورث فلان أباه أي مات وترك مالاً بقي له ،والعلماء ورثة الأنبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم ،ويرث الله الأرض أي أنه كان خوّلهم ما بها من مال ونحوه ،وسوف يموتون فيبقى له ما خوّلهم .
وعلى هذا ،فكون الجنة إرثاً لهم أورثوها ،معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعاً ،غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن ،فهو الوارث لها بعمله ،ولولا عمله لم يرثها قال تعالى:{أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [ المؤمنون:10 11] ،وقال تعالىحكاية عن أهل الجنة:{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [ الزمر:74] .
وهذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات » .وبعد أن يذكر ما أوردنا عن المفردات يعلّق بقوله: «وإنما كان ما قدمناه أوضح ممَّا ذكره ،لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادّة » .
وقد جاء في الحديث المأثور عن رسول الله( ص )بطرق الشيعة والسنّةحيث يقول: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ،فأما الكافر فيرث المؤمنَ منزله من النار ،والمؤمن يرث الكافرَ منزله من الجنة ،فذلك قوله:{أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} » .
ونلاحظ على ما ذكره العلاّمة الطباطبائي بالحديث عن مناسبة التعبير بالإرث عن الجنّة التي ورثها المؤمنون ،بأنها «معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعاً ،غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن ،فهو الوارث لها بعمله » ،إن ما ذكره من تعريف الإرث بأنه «مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره » ليس عليه دليل من اللغة ،لأن الظاهر من معناه أن يكون المال مملوكاً للشخص أو مختصاً به ،فينتقل إلى غيره ،فليس الانتفاع به ملحوظاً إلا من حيث تعيّنه للملك .
أمّا صعوبة إرجاع ما ذكره الراغب من المعاني إلى أصل واحد ،وهو المادة ،فقد يكفي في ذلك في المناسبة أن تكون شبيهة بالإرث باعتبار أنه خوّل له شيء يهنأ به ،سواء كان ذلك نتيجة عمله أو كان ذلك بالتفضل عليه به ،ولعل ذلك هو معنى الرواية ،لأن ظاهرها ليس مراداً من حيث فعلية اختصاص المؤمن بمنزل في النار ليرثه الكافر ،واختصاص الكافر بمنزل في الجنة ليرثه المؤمن ،لأن النار منزل الكافر بكفره ،فهو يختص به بالأصالة لا بالوراثة ،كما أنّ الجنّة منزل المؤمن بإيمانه ،فهو يحصل عليه بالأصالة لا بالوراثة ،بل المراد ،على تقدير صحة الرواية ،أن الجنة والنار معدّتان لمن يعمل بما يؤدي إليهما ،فليست الجنة مكتوبة لشخص معين من ناحية ذاتية ،كما أن النار غير مختصة بفردٍ معينٍ من ناحية ذاتية ،بل القضية تابعة للاختيار بإرادة الإيمان والعمل الصالح أو الكفر والعمل السيىء ،فهناك إمكانية الوصول لكل منهما ،فإذا حدثت الفعلية كان كل واحد منهما بمنزلة الوارث لمكان الآخر ،باعتبار أنه في معرض الصيرورة منه ،ولكن يبقى في المناسبة ،في حديث الرواية ،خفاء مما تردّ به إلى أهلها .
لا غلّ في الجنة
ثم ما مشاعر أهل الجنة ،وما طبيعة العلاقات التي تحكمهم ،وكيف يواجهون هذا الجوّ ،وكيف يفكرون فيه ،وكيف تكون عملية الاستقبال ؟؟؟{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أي حقد .وقد لا يكون المقصود بالنزع أنها كانت مملوءةً بالحقد ثم نزعه الله منها ،بل ربما تكون كنايةً عن عدم وجوده فيها ،كما هو أسلوب التعبير في نسبة الفعل إلى الله ،على أساس أن أدواته منه ،وإن كان اختياره بيد الإنسان .وفي ضوء ذلك ،يمكن أن يكون المراد هو أنهم عاشوا الإيمان الذي يثير مشاعر الطهر والحبّ والرحمة في نفوس المؤمنين ،فلم يبق في نفوسهم أيُّ أثرٍ للحقد على مستوى علاقاتهم الأخوية ،فها هم يعيشون في الجنة إخواناً في مرحٍ وغبطةٍ وسرور وشعورٍ بالفرح الروحي ،في ما يواجههم من نعيم يتمثل في هذه المشاهد الطبيعية الحلوة ،{تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا} .وبدأوا يشعرون بالحاجة إلى التعبير عن شكرهم لله وحمدهم إياه ،لأنه هو الذي فتح لهم باب الهداية ،في ما أودعه فيهم من وسائل الهداية ،وما أرسله إليهم من رسل ،أو أنزله عليهم من وحي{وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} فهو الذي أرشدنا إلى الجنة ودلنا على السبيل إليها ...{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} بدينه وشريعته .{لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فقد وعدونا بالجنة إذا سرنا في طريق الخير والطاعة ،وها نحن نرى ذلك في هذا الجوّ الرائع الذي يتحرك بالحق{وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فلم تحصلوا عليها بالاسترخاء والكسل والتمنيات ،بل حصلتم عليها بالجهد والتعب والعناء ...وذلك هو سبيل الحصول على جنّة الله ورضوانه ولطفه ..